السبت، 24 سبتمبر 2011

الزائر ‘ع‘ [#4]

<-- (3) السمكة الصفراء

(4)
أسرار


كم كنت ساذجاً وقتها, كنت أعطي التوجيهات لعماد بالرغم من كوني تائهاً اصلاً, لا أريد أن أبدو اقل "نصاحة" و"فهلوة" منه, أظن أن الشعور الضمني بالمنافسة بيننا بدأ في هذه السيارة, كنت أحدّثه بهدوء مصطنع محاولاً تفادي النظر في عيني المرأة الجالسة بجواري, طبعاً فأنا مشغول بتوجيه عماد, أو بالأصح, أصطنع انشغالي بتوجيه عماد, كما اصطنعت انشغالي عن أشياء كثيرة في حياتي, العجيب أني لم أكن أندم على تصرفاتي هذه, كنت أجد المبررات بسهولة, حالتي كانت تدعو للحزن والندم, لكني تتبعتها, لم أكن أدري ما أفعل حينها, تعلّمت حينها أن الأشياء المثيرة تقبع في الجانب الغير مخطط له من الحياة, لو أدركت ذلك لما أتيت للقاهرة من البداية, كنت سأخرج على قدمي تجاه أكثر الجوانب سكوناً من مدينتي, لما شغلني طموحي بالعمل والدراسة في القاهرة, لكني أتيت, سأدرك كم كنت مغفّلاً فيما بعد, لكن عماد في الكرسي الأمامي في السيارة, أعتقد أنه لم يكن بحاجة ليفكر في الأمر ليدركه, كنت أحسده على عفويته, لا يسمح لعقله أن يتدخّل ابدا في رغباته, لا يسمح لعقله أن يتدخل في أي شيء في حياته, قد يحتاج عقله في حساب إيراد دكانه الصغير المطل على بيت أم سعيد, لكن لم يحتاجه أبداً في تقرير إن كان سيأتي لمحادثتي حين يجدني متسمراً امام بيتها, أو في تقديمي لأصحاب البيت, أو في سواقة السيارة التي نركب فيها حالياً, لا أعتقد انه يفكر في أي شيء حالياً, لم أكن أصدق أن أمثال عماد يبتسمون حين يفكّرون, أرى ابتسامة هادئة كبيرة على وجه عماد الآن, لهذا لا أعتقد انه يفكر, لم أكن أفكر أنا أيضاُ في أي شئ, كنت خائفاً, كنت مروّعاً, من هؤلاء؟ لقد قابلت عماد لتوي, لقد قابلت سمية لتوي أيضاً, ماذا حدث؟ كيف أصبحت بجوارهم الآن نتبادل الابتسامات؟ لم أشرب غير كأس واحد, لم أشعر بأي تثاقل أو ارتخاء, لم أكن سكراناً بالتأكيد, لكنّي تتبعتها, هذا حدث من دون تفكير أيضاً, لهذا أنا معهم الآن, ربما لو لم أفكر أيضاً حين ناداني عماد لكنت هربت, لكني لم أهرب, فقد كنت أعتبر نفسي عضواً صالحاً في المجتمع, وأمثالنا لا يهربون, هذا ما أخبروني به على الأقل, لكني سأكتشف أيضاً أن الأعضاء الصالحة في المجتمع هم أول الهاربين, سأكتشف أشياء كثيرة أيضاً بعد هذه الليلة, أو هذا النهار, لا تهم التفاصيل كثيراً, فعماد أصلاً ليس عماد, ولا سامية سامية, لا أدري أيهما حقيقي وأيهما من صنع خيالي, لكن بالتأكيد سامية تلك غير سامية هذه, بالتأكيد سعيد ذلك غير سعيد هذا, لا تهم الأسامي, لا أدري لماذا أتذكر سامية وعماد بهذا الشكل, أنا في حالة غريبة الآن, أعي جيداً أني أهلوّس, من حولي أخبروني بذلك, لم أعد أهتم, لكن هذه الذكريات, أتذكر هذه اللحظات, لازلت أشعر بمداعبة الهواء لوجهي وأنا في السيارة مع سامية, أصبحت أسمع هفيف الهواء أيضاً, لا أظن أني كنت ألاحظه حينها, لكنه بقى في ذاكرتي مع الأشياء لحين أتمكن من سماعه, الأصوات دون كل الأشياء لا يمكن إعادة اختلاقها, محاولة وصفها نوع من العبث, لكنها تبقى في ذاكرتك دون أن تدري, إلى أن تسمعها مرة أخرى, كالسكين ستخترق آذانك ككيس رمل, ستنثر حياتك كحبات الرمال أيضاً, ستنقلك إلى اللحظة التي سمعت فيها هذا الصوت لأول مرة, لن يكون الصوت حدثاً مهما في ذاكرتك, لكنه سيكون المفتاح الضائع للجانب المظلم من ذاكرتك, هذه حالتي الآن.
- ادخل من العطفة الجاية يمين

- بس دي حارة سد؟

- استنى, احنا كدة فين دلوقتي؟

- طيب, قولي بس انتوا رايحين فين؟

- العتبة

قلتها بصوت منخفض, كعادتي في أي حوار لم أكن أرغب في حدوثه, يعرف عماد الآن أني تائه, ربما تعرف سامية أيضاً اني تائه, لهذا يدها على ركبتي الآن, في المواقف الاعتيادية, بالتأكيد لو لمستني امرأة بهذا الشكل لأعرتها كل انتباهي, لكن هذه المرة كنت منشغلاً عنها تماماً باللاشيء, كنت مروّعاً ربماً, أو هذا ما أردده في نفسي دائماً, نوع من توكيد شجاعتي, لكن يجب أن أعترف لك بهذا السر, دائماً ما أشعر برهبة في حضورها, سأظل على هذا الحال حتى بعد أن فُتحت لي أبواب الملذات, كان الفضل لها ولعماد, لكنها ظلت دائما الكائن الغامض, ربما تركت فيها كل رهبتي وخوفي من جنسها حين قبّلتها لأول مرة هذه الليلة, واستعرت من عماد شجاعته مع الآخرين, ربما كان يرهبها عماد أيضاً, ربما لهذا السبب كان يعاملني بلطف, لم يخبرني ابداً السبب.

- يا صلاة النبي, طيب متشغلش بالك بالطريق انت بقى, الظاهر السنيورة شقلبت كيانك

هذه هي, أظن أني عماد أصبح صديقي في هذه اللحظة, عندما أحكي لك الآن عن عماد أتخيلك تومئ برأسك, لقد أخبرت الكثيرين من قبلك عن عماد, كلهم فعلوا ذلك, لهذا سأفترض انه ينتمي لمجموعة كبيرة من الناس, هؤلاء الذين يكفي وجودهم في حياتك لتشعر بالاطمئنان, بأن كل شيء على ما يرام, لكن عماد كان أكثر من ذلك, كان ملاكي الحارس, كان يخبرني أسباب تكاسلي, ويدفعني معه إلى الجانب المثير من الحياة دون تفكير, كان لا يعطيني الفرصة, حتى اعتدت على الأمر, حينها ذهب هو, لكن لا أريد تذكر هذا الآن, فلا يزال الهواء يداعب وجهي, لا تزال يد سامية على فخذي, صحيح, لم أنتبه حينها, لكن لماذا يدها الآن في هذا المكان بالذات؟ للحظة كنت أظن أنها تعرف أني خائف, لكن الآن أراها تبتسم, عيناها معلقتان على فمي, ربما تنتظر مني ان أرد الابتسامة, لكني كنت خائفاً, أسمع صوت الهواء يخترق رأسي الآن, لم ألاحظه حينها, انها تتحدث الآن, تحرك شفتيها, لكني لا أسمع أي شيء, حتى هفيف الهواء, حتى صوت محرك السيارة, كانت هذه اللحظة الوحيدة التي لم أسمع فيها حتى صوت تفكيري, لم أكن أفكر في أي شيء أصلا, أنا أفكر في كل شيء الآن حين أتذكر تلك اللحظات, وفي بالي العديد من الأفعال التي كنت أتمنى أن أفعلها, لكني لم أفعل أياً منها, فقط ظللت للحظات أنظر لها وهي وتحرك شفتيها.

- يا أفندينا... ألاه, يا أفندينا... يادي الخيبة, لحقت تسرح مني بالعجل كدة؟

- إيه؟.. اه, أيوة, معلش مش سامعك كويس, صوت المكنة عالي

- كنت بقولك نقف نجيب بيرة قبل ما نطلع أوضتك ولا عندك؟

- لا معنديش

- يخيبك راجل, تعرف تشوفلنا صرفة في الموضوع ده ياعماد؟!

- عيب عليك, ده أنا متربي هنا

أوقف عماد السيارة فجأة وتراجع بها قليلاً ليدخل من عطفة مظلمة نوعاً ما, أبطأ السيارة, كان صدى صوت المحرك الخافت الشيء الوحيد الدال على اننا نتحرك, توغلنا في الظلمة حتى أصبح إغلاق عيني كفتحها.

- ما تشغّل الكشافات يا جدع انت, هتسوق في الضلمة ازاي؟

- اشششش, اسكتي انتي ملكيش دعوة, خليكي في الأفندي اللي جنبك

سادت حالة من الصمت والرهبة, لم نكن نعرف لماذا أصرّ عماد على دخول هذا الشارع المظلم, لم نكن نعرف لماذا يُصر عماد على البقاء في الظلمة, ربما لم يكن هناك سبب أصلاً, لم يخبرنا أبداً لماذا فعل ما فعل, لكن في النهاية خرجنا من الجهة المقابلة لنفس الشارع الذي كنا فيه منذ قليل, عندما عدنا إلى الطريق الأساسي أسرع عماد بالسيارة حتى توقّف امام احد العمارات الحديثة, دخلها وتركنا في سكوننا لدقائق كنا ننظر فيها لبعضنا البعض بتعجّب, عاد عماد بثلاث زجاجات, احداهما كانت غريبة قليلاً عن الآخرين, سأعرف أيضاً فيما بعد أنها فودكا, سيعرّفني عماد بعد ذلك على ميزون توماس, حيث اعتاد أن يشتري الفودكا من هناك, ركب عماد مرة أخرى وقد عادت البسمة والارتياح إلى وجهه.

- كنت بتعمل إيه يامنيّل؟

- خدي امسكي القزايز دي وانتي ساكته

- هات ياخويا

- ألا احنا رايحين على فين بالضبط يا أفندينا؟

- شارع محمد علي

- ياصباح الأُونس, أنا قلت كدة من الأول

لم أفهم ما يقصده عماد, سأفهم مقصده فيما بعد أيضاً, في الحقيقة هناك أشياء كثيرة لم أكن أفهمها في هذه الليلة, لقد حدث الكثير, وسيحدث الكثير أيضاً, توجد يد انثى على فخذي الآن, لقد جذبني وجهها, في الحقيقة هذه أول فتاة أتمكن من الجلوس بهذا القرب منها, كل الفتيات تتواري خلف الحوائط والأبواب والآباء والأمهات حين اقترب منهم, ربما لهذا السبب كنت خائفاً حينها, لكني تتبعتها, هذا كل ما يتطلبه الأمر لأخرج من حياتي الرتيبة السابقة, لأدخل الجانب المثير مع صديقي الجديد عماد, الآن لاحظت ان فستانها منحسر قليلاً نتيجة تعلّق طرفه بمقعد السيارة, أستطيع رؤية ركبتها بوضوح, لماذا لم أنظر إليها من قبل؟ كنت مرتبكاً, لكن انتظر, لماذا نحن ذاهبون إلى غرفتي الآن؟ لقد شغلتني تفاصيل كل ما حدث, حدث كل شيء بسرعة لم تسمح لي بالتفكير فيما أفعل, أحا, لماذا أنا الآن في هذه السيارة مع سامية وعماد, لماذا أتحدث عنهم هكذا وكأني أعرفهم منذ بدأ الخليقة؟ لم أقابلهم غير الليلة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق