(5)
الأُلفة
رأيت في طريقي إليك اليوم قطة, كانت جالسه على احدى الكراسي الملقاة على طرف الطريق, كان بجوارها ظل كبير حي يتحرك بتثاقل, ربما كان رجلاً عجوزاً, لست متأكداً, كانت جالسه بارتخاء تلعق ظهرها, لاحظتها لثواني قبل أن أمضي في طريقي إليك, بالتأكيد تعرف الأسطورة الشعبية حول القطط, أعني أن القط بسبع أرواح, وفي أقوال أخرى تسع, لا يهم العدد, فحياة القط لا تتعدى السبعة عشر عاماً, لكن أظن أن هذا القط لا يكترث بك, لديه أرواح كافية ليشعر بالملل منك, لو كنت قطاً لما اضطررت للتفكير في سعيد الآن, ذلك العجوز الشريد, أرسلته بيدي لدار المسنين وتكفّلت بنفقاته, أتدري؟ لا أشعر بأي رضاً عن نفسي الآن حين تخبرني بمصيره, ربما كان هو الظل المتحرك بجوار القطة, لم ألحظه, لن ألحظه بعد الآن بفضلك, لماذا اتيتني الآن؟ لازلت صغيراً كما ترى, لست كسعيد, سعيد كان كبيراً, عاش ورأى الكثير, أو هذا ما رأيته في تجاعيد وجهه, كنت أرغب في السفر حول العالم, أريد أن أجرب كل شيء, حياتنا قصيرة كما تعلم, لكن من الظلم أن تأتي الآن, لم أرتكب أي جريمة, أتدري؟ أنا أحقد عليك, فأنت لا تحتاج أي مبررات, وجودك نفسه لا مبرر له, كأي شيء في هذه الدنيا, نعم, لكنك لا تسمعني الآن حتى, يا ترى كيف كان سعيد حين قابلته؟ هل حكى لك قصته مع تحية وفريد أيضاً؟ كيف انه قابلها بالصدفة في احدى بارات القاهرة عام 36؟ لم أصدقه طبعاً, لا أظن انه كبير لهذه الدرجة, جدي أصغر منه, كنت أظن دائماً ان جدي أكبر الأحياء, لكن ما الذي أعرفه أنا عن الأحياء؟ لقد أثبتت لي اليوم أني كنت مخطئاً طوال الاثنين وعشرين سنة التي قضيتهم هنا, لا أمتلك قصصاً لأحكيها لك كما فعل سعيد, ربما كان يشعر سعيد بالسعادة وهو يحكي لكن عن تحية وفريد, ربما كان يختلق كل هذه القصص, فتحية هي بائعة الخضار في الشارع المقابل, وفريد فرّان في فرن المنطقة, لكنه يمتلك خيالاً واسعاً على الأقل, ليتخيل كل هذه الأحداث, أتدري؟ لقد صدقته, كانت عيناه صادقتان, كان جسمه يهتز كلما أخبرني عن تحية, كان يبتسم بهدوء حين يحدثني عن فريد, كان يخبرني أن أي شخص دونه مخطئ, كنت وحيداً, كان وحيداً حين قابلته أيضاً, أتدري؟ لقد حلمت كثيراً اني جثة متعفنة وسط الصحراء, وأن النسور تنتشل عيناي, لهذا لست حزيناً لوجودك معي الآن, كل ما اريده هو فرصة لأعيش حياة أفضل, هل ستخبرني ماذا سيحدث بعد أن تتركني؟ لست واثقاً, لهذا أنا خائف, دائماً أخاف مما لا أعرفه, أخبروني أن هذا شيء طبيعي, لكني كنت جباناً ايضاً, لهذا أحقد على القطط, فلديهم أرواح احتياطية, يمكنهم تجربة ما يشاؤون, إلى أن تتبقى روح واحدة, حينها سيجلسون كالقط الذي رأيته باكراً, ليلعقوا ظهورهم في انتظارك على الطريق, أظن أن لديهم الكثير ليحكوه لك أيضاً, لكني كنت خائفاً, لم يخبرني أحد أني أستطيع فعل كل هذه الأشياء, كنت أظن أنها موجودة فقط في الكتب والأفلام, لهذا ليس لدي الكثير لأحكيه لك مثل سعيد, لكن ربما سأخبرك بقصة متأكد أنك تعرفها, عن اثنين من مغنيي المفضلين, بادي هولي و ريتشي فالينز.
في شهر يناير من عام 1959, كان يحيي بادي هولي و ريتشي فالينز مجموعة من الحفلات على مدار ثلاث أسابيع, كانت الحال في اسوأ ما يكون, ربما كان يتوجب عليهم التوقف حينها, لكن هناك التزامات و عقود, لولا هذه الالتزامات والعقود لما أتى اليوم الذي ماتت فيه الموسيقى, ما فعله بادي هولي في عام ونصف كان كافياً ليغير الذوق الموسيقي إلى الأبد, مات صغيراً ايضاً, اثنان وعشرون عاماً, لهذا أحكي لك حكايته, فأنا في مثل عمره الآن, لكني لست مثله, قرأت انه كان يمزح مع صديقه وايلون وقتها حين عرف انه سيركب الحافلة لأن الطائرة لن تكفيهم كلهم.
-مش هتركب الطيارة معايا الليلة؟
- لا, هستنى الباص
- بقى كدة؟ إلهي يعطل بيكم في البرد يابعيد
- إلهي طيارتكم الخردة تسقط بيكم في جهنم
بالتأكيد كانا يمزحان, أخبروني أن وايلون ظل يؤنبه ضميره على هذه الكلمات بعد أن سقطت الطائرة بالفعل, كان يظن أن كلماته هي السبب, كم كان أحمقاً, كيف يؤمن بالقدر و الشؤم في ذات الوقت؟ لا يهم أياً من هذا, فقد مات بادي على أي حال, وكذلك ريتشي, ريتشي ايضاً لم يكن من المفترض ان يركب هذه الطائرة, لكنه استبدل تومي ألسب في النهاية, كان من المفترض أن يموت في هذه الطائرة تومي لا ريتشي, لو كنت عادلاً لأبقيت ريتشي حياً, "لا بامبا" كانت تكفيه, لكنه قرر المراهنة على المقعد مع تومي, كان تومي مريضاً على أي حال, لهذا لعب "ملك وكتابة" مع ريتشي, كان بوب هال موجوداً معهم, هو من رمي العملة المعدنية, "رأس" - "ملك", قالها ريتشي لتنفجر رأسه في الطائرة بعدها بدلاً من تومي, كم كنت ساخراً يومها, ربما استحقوا هذه القصص المثيرة عن موتهم, فقد عاشوا حياة مثيرة, كان ريتشي ذو سبعة عشر عاماً حينها, كانوا يتناقشون في البارات عن كيف انه سيغير مستقبل الروك أند رول للأبد, لكن الطائرة سقطت, كان فيها وهذا سبب كافي لتضيع حياته هباءً, في الحقيقة من السهل جداً أن تضيع حياة المرء, يمكنني أن أفكر في عشرات الأشياء التي قد تتسبب في قتلك الآن, كما قتلت والدي من قبل.
أخبرني والدي أين يتوجب علي دفنه حين يموت, أخبرني أيضاً أني سأُدفن في نفس المكان بدوري, لم يسألني أين قد أرغب في أن أُدفن, فقط أخربني انه يجب أن أرقد هنا, نزلت معه حين زرتنا لأول مرة, زارنا رجال كثيرون برباطات عنق سوداء, عندما دفنت أبي بيدي كنت أرى نفسي في الكفن, فقد أخبروني انه مثلي الأعلى, كنت أسير على خطواته, كان من السهل أن أقرأ مستقبلي, تخرّجت من نفس الكلية التي درس بها, أعمل الآن في نفس الشركة التي يعمل بها, كنت سأتزوج قريباً لأحضر أماً جديدة إلى نفس البيت الذي أقام به هو وأمه, وكنت سأنجب صغاراً مثلي, يبدو اني وقعت في دائرة مفرّغة في لحظة ما حين خرجت إلى هذا العالم, لكنك أتيت باكراً هذه المرة, وهذا سيغير كل شيء, ربما يتوجب علي أن أشكرك, لقد فصلتني عن هؤلاء الناس, انتشلتني من هذا الموقف الحرج, لم يمنعني هذا من أن أنصح خطيبتي بأن تهتم بنفسها وبوالدتي, في الحقيقة, لا أكترث, لقد أضعت حياتي دون جدوى, وسيضيعون هم أيضاً حياتهم دون جدوى, أراهنك أن أمي تصلي الآن, ربما تبكي على السجاد أيضاً, لو سألتها لماذا تبكي ستجيبك بأكثر الكلمات نمطية وزيف, ابني, في الحقيقة هي تبكي لأنهم أخبروها أنه من اللياقة أن تبكي في مثل تلك اللحظات, فقريباً سيجري الطبيب العملية, كان يحدثني سعيد كثيراً عن السمك, لم أكن أفهمه, أظن أني رأيت ما يعنيه اليوم, لقد وضعوا حوض سمك في غرفتي, أراها في احدى أركان الغرفة, يتغير مكانها كل يوم, أظن أنها تقترب أكثر, لكن ما قاله سعيد كان صحيحاً, لا يتذكر السمك أي شيء على الإطلاق, أحقد على السمك أيضاً, فلديه الفرصة ليعيش من جديد كل يوم, لديه أرواح بعدد الأيام التي يقضيها في ذلك الحوض, لا بد أنه ينظر إلى الغرفة باهتمام واستغراب كل يوم كأنه شيء جديد يراه لأول مرة, تخيّل, تخيّل لو أن الحياة أصبحت جديدة ومثيرة للاهتمام كل يوم, الأشياء ثابتة ولا يمكنك تغير ذلك, أمي لا تزال موجودة, خطيبتي تنتظر بالخارج تفكّر في ضياع العريس وفي عنوستها المحتملة, زملائي في العمل كلّ منهم في مكانه على مكتبه الخاص, بالتأكيد تعرف اني أكره حياتي هذه, سقطت على الأرض أكثر من مرة, أخبروني أني مريض, لكني كنت أبكي على الأرض, هذا كل ما في الأمر, لكن لن يصدقوني طبعاً, كما انهم لا يصدقون وجود حوض السمك في غرفتي الآن, هم فقط لم يفهموني, كنت مخطئاً حين انتظرتهم ليفهموني, كان يجب أن أتركهم قبل أن تأتي أنت, كان يجب أن أبقى مع سعيد, ليخبرني عن مغامراته مع تحية وفريد, ربما عندها سأفهم أنه يتوجب علي أن أبحث عن تحية وفريد في حياتي, بالتأكيد خطيبتي الجالسة بالخارج الآن ليست تحية, فقط بنت خالي, لا أكثر ولا أقل, أتدري ما هي المشكلة؟ كنت ارى من حولي ينظرون إلي دائماً, لكني لم ارى أحداً فيهم يبتسم أبداً, كان علي أن أدرك حينها أني في المكان الخطأ, كان اختباراً, كان واضحاً جداً, لكني تمسكت بالمعروف, كنت جباناً كما أخبرتك.
هذا هو آخر جزء سأنشره على المدونة, أنوي إكمال بقية الرواية في هدوء وسأقرر حينها إن كانت تستحق النشر مطبوعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق