الجمعة، 16 سبتمبر 2011

الزائر ‘ع‘ [#1]

(1)
صديقي المختبئ


"المجد لأوناس، ها انت، لم تذهب، كميّت، لكن أتيت، حي"
-ترنيمة على جدران هرم أوناس

أُحب أن انظر للأشياء دائماً بشئ من التفاؤل والإقبال، لهذا عندما أفكر في الموت أراه مجرد رتابة من رتابات الحياة، أراه فرصة محتملة لتفسير حالتي الآن وربما في معظم الأوقات، لحظة السكون تلك التي أجلس فيها، بصمت، مبتسماً ببلاهة، فارغ الذهن، في محاولة لمحاكاة العدم، هي لحظات متواترة، أرغب فيها في التكوّم في صندوق صغير مُغلق، مفتاحه في قلب الشمس، تمر تلك اللحظات بسلام وأعود مرة أخرى إلى صخب الحياة، أعي أن مسالمتي هذه تثير سخرية البعض، لا بأس، أستطيع أن أتفهم الأسباب، أتفهم تماماً أن الوجود ممل، أتفهم تماماً ما قد يجلبه التفاعل مع الأشياء من متاعب وآلام، أتفهم تماما أن قيمة أي شئ هي وهم مصطنع، الدنيا ممتلئة بالأمور التي تحاول إلهائك عن ادراك الحقيقة، حقيقة أنه لا معنى لأي شئ، لا توجد حاجة لأن يكون هناك معنى لأي شئ، المعاني ملحقات مصطنعة وألفاظ بلا سَنَد، لا توجد حتى طريقة للتأكد من ان ادراكنا واحد، الألوان مثلاً، ماذا لو أن ما أراه أحمراً في عيني تراه أنت أزرقاً في عينك؟ هذه المعاني تخصني الآن، أزرقك أحمري، وكلانا نطلق عليه أحمر، ماذا لو كان الأزرق الذي أراه أنا في عينك تراه أحمراً؟ هذه المعاني تخصك الآن، أحمرك أزرقي، وكلانا نطلق عليه أزرق، وكلاهما معناه افتراضي، ماذا لو أن كائناً فضائياً يري في اللون الواحد ألواناً عديدة لا ندركها نحن؟ لا معنى حقيقي لإدراكنا، هي وسلية لتوكيد الذات بكل خصوصيات معانيه ونِسَبه، وهي حالة من العبث مثلها كالموت تماماً، نعود اذا إلى الموت، كما أخبرتك سابقاً، لا أري في الموت غير شئ آخر من الأشياء عديمة المعنى في هذه الحياة، من المفترض أن دورنا في الحياة طبعاً هو إضافة معاني لهذه الأشياء كنوع من توكيد وإدراك الذات، بعضهم قد يستهسل إجابات جاهزة مُسبقة، بعضهم قد يقضي عمره كله في محاولة للوصول لأسطورة الكمال وإدراك المعاني الحقيقية للأشياء، والبعض الآخر لا يشغل باله، فالحياة ممتلئة بالأشياء، وهذا مايهم، هؤلاء يرون أنه لا جدوي من البحث عن معنى أو سبب، بعضهم يعيش حياته متشائماً كنوع من الشعور بخيبة الأمل، كأن جزءاً ما في عقلهم الباطن يتمنى أن يجد تفسيراً لكل هذا، في حين أني أتفهم تماماً تشاؤم هؤلاء وانعزالهم، إلا أني لا أستطيع انكار شعوري بالشفقة تجاههم، طبعاً لا يعنيهم شعوري هذا، فهو أيضاً بلا معنى حقيقي، هو مجرد شعور صنعه خيالي ليزيد من ثقتي وإداركي لذاتي ربما، قد أكون مخطئاً، لكن الحياة مليئة بالأشياء كما ذكرت.



"الروح في النعيم، الجسد على الأرض"
-نص على بردية تنتمي للأسرة السادسة


- الابتسام... فعل الابتسام هو أحد الأشياء التي تبقيني متفائلاً، اعني هنا ابتسامي أنا، دعني أخبرك عن شئ يحيرني، الروح، لا أستطيع أن أجزم بوجودها، لكني أيضاً لا أفهم ما الذي يجعلني أشعر بالراحة لمجرد تحريك بعض عضلات الوجه، ربما هو تفسيري الخاص، الروح بالنسبة لي هي اللاشئ، حالة العدم التي أحاول محاكاتها تكراراً، ربما كان الناس مُخطئين، ربما تعود الروح للانسان حين يموت، عندما أنظر لوجوه الموتى أجد سلاماً غير اعتيادي، يشابه السلام الذي ينتابني حين أبتسم، مرة أخرى سأذكرك انّي أوصف ادراكي للأشياء، لست بحاجة لأن تتفهم ما أقوله أو أن تجد له معنى، هي أشيائي وهي موكدات ذاتي، أنت تعلم أني أحب التمشّي في الشوارع المزدحمة، وحيداً وسط كل هذه التكدسات من البشر، بالتأكيد لا يوجد سبب أو معنى لما أفعل، لكن بقايا الابتسامة تلك تخبرني أن روحي تبحث في معرض الوجوه هذا عن وجه آخر مبتسم، وجه آخر يستمتع ببعض السلام، بالتأكيد في كل مرة أعود بوجه جامد لا تفسير له كالحياة، هذا ما أعنيه، أغبط الموتى، أريد بعضاً من سلامهم.

- تريد الانتحار؟!

- لا، لم أفكر جدياً في الانتحار، لا أري فيه أي سلام أو سكون.

- يمكنك استخدام السم ربما، يمكنك أن تموت في نومك!

- لكني رأيت وجوه المنتحرين، أنا مهووس نوعاً ما بصور الموتى كما تعرف، هل انت بالسذاجة التي تجعلك تصدق أني لم أفكر في الانتحار؟ دعني أعترف لك، أنا جبان، ربما هذه مصدر تفاؤلي، لكني رأيت وجوه المنتحرين، تبدو ساخرة، تبدو مضطربة، كأنهم أرادوا أن يسخروا من الحياة فلازمتهم حتى في سكونهم، أريد أن تتركني الحياة في سلام، لتأتي الروح، لا أعتقد انها سترضي باضطراب وجهي المنتحر.

- هذا تفسيرك انت كما قلت، تحاول تبرير جبنك واضطرابك انت.

- ربما، لقد اعترفت، لا أعتقد أني جبان بمفهومك انت، أظن ان الجبن من الأشياء السلبية في منظورك، أراه أنا نوعاً من التريّث، فيه هدوء وسلام، ربما لو كنا جبناء لما حدثت أي من الحروب أو الأشياء المحزنة في هذه الدنيا، ربما حينها أيضاً لما أقدمنا على فعل أي شئ، وبقينا في هدوء وسلام إلى أن تنزل علينا أرواحنا، ربما حينها لكان تراجع آدم وحواء عن الأكل من شجرة المعرفة وماتركتنا أرواحنا، ربما حينها لتراجع الشيطان عن مقاومته مشيئة ربه، ربما حينها لتراجع الرب عن خلق كل تلك الأشياء، ربما لتراجع الرب عن الوجود في عقول الناس، لكن هذا لم يحدث، أرى الخمول حالة من الصفاء، ربما هذا ماتعنيه حياتي في نهاية الأمر، ذلك اليوم الذي سترضي فيه روحي عني.


"سوف تبقى في الوجود ملايين ملايين الحيوات، فترة من ملايين السنين"
-نص على بردية تنتمي للأسرة السادسة

-لا أعتقد أني أفهم شعورك هذا، فكل الأشياء في حياتي حقيقية، وأنا سعيد، هذا حقيقي، أنا حي الآن أيضاً، وهذا حقيقي، كما أني أشعر بالحزن حين يموت أحدهم، وهذا حقيقي، الموت بالنسبة لي شئ بغيض، هكذا أراها، الحياة مليئة بالأشياء كما تقول، أما الموت... 

- تشعر بالحزن لأنك فقدت أحد الأشياء في حياتك، لا لأن فعل الموت "بغيض"، حزنك على الموتى يكون لأنك تدرك ان هذا الشخص لم يعد جزءا من حياتك، ستفتقد وجوده في حياتك انت، لن تفتقد حياته هو، فهي لم تكن ملكك من البداية، هنا جمال الموت، هو شئ خاص جداً لا يمكنك أبداً مشاركته، بالتأكيد ستحزن لموته لكن حزنك لنفسك وعالمك، لا شئ يخصه في حزنك هذا، فقد حصل هو على السكون الذي يستحقه، أيضاً الأشياء التي تملأ الحياة، ما معناها عندك؟ بالنسبة لي كل الأشياء خطوة في طريقي للحصول على السكون، هذه حقيقة، انظر إلى هذه الصورة المعلقة هناك، هذه التقطها لي أبي وأنا في السابعة من عمري، انظر إلى الآن، هل ترى الفرق؟ أنا أقرب الآن إلى السكون.

- إذا الأشياء في حياتي خطوة في طريقي للحصول على السعادة، والموت بالتأكيد يعترض ذلك.

- السكون... السعادة... أحمر... أزرق... إدراكنا مختلف، لا أعتقد ان هناك اختلاف، ربما نظرتك للموت تأثرت باهتمامك بحياة الآخرين، عندما تراهم يموتون، ربما لو استخدمت ألفاظك سأجد ان الموت سعادة، السعادة تأتي كنتيجة للتفاعل مع الأشياء، وكذلك الحزن، ربما عالم بدون أشياء سيكون أكثر دعوة للسعادة، هل ترى؟ لن تحتاج لأن تشعر بالسعادة لتكون راضياً، لن تحتاج لأن تشعر بأي شئ.

- لكني بالتأكيد أريد الشعور بأي شئ، كان هذا سعادة أو حزن، هذا دليل على وجودي.

- أترى؟! هذا ما أعنيه بالضبط، لو لم نوجد لما احتجنا أو أردنا أي شئ.

- نعم، ولكن ها نحن الآن جالسين نتحدث لبعضنا الآخر.

- طبعاً، وها نحن في انتظار العدم.



هناك 3 تعليقات:

  1. سبق وأن قيل أن فلسفة شوينهاور التشاؤمية كانت سوف تتغير كليا لو استطاع الحصول على جرعة من البروزاك ( مضاد الإكتئاب ).

    أنت تملك موهبة كتابة لا جدال عليها وحس في غاية الرهافة. أتمنى أن تسمح لي ببعض التعقيبات:

    - حقيقة أن معنى الحياة أو ومعنى اي شيء أخر لم ينزل علينا من السماء مغلف ومعلب وجاهز للاستعمال اليومي فهذا شيء لا يلزمك بأن ترى الوجود كئيب أو رتيب, بل العكس تماما, هذا مما يحمًلك أنت شخصيا مسؤولية خلق معنى كل شيء. المعاني اللانهائية القابلة للإلحاق على الوجود تؤكد لنا أن طبيعته غامضة ومثيرة وفي منتهى الثراء. الوجود, كما يقول عالم الجينات جون هولدن, ليس أشد غرابة مما نفترض, بل هو أشد غرابة مما نستطيع أن نفترض.

    - أنت تقول أن قيمة أي شيء هي ( وهم مصطنع ). المشكلة الاساسية هنا ليست في افتراض أن القيمة هي وهم مصطنع, بل المشكلة هي في التشبث بفكرة ( القيمة ). فكرة ( القيمة ) تحملل خللين جوهريين: الخلل الأول هو في ( الموضوعية ) والثانية في ( المبادلة ). عندما نقول ان الشيء يحمل قيمة فنحن نفترض أن هذه القيمة موضوعية, أي بالإمكان قياسها وتحديدها والإجماع عليها بشكل موضوعي. المشكلة الثانية عندما نقول أن للشيء قيمة فهي تفترض أننا نستطيع ان نبدله ( أو تساويه ) بشيء اخر إذا كان يحمل نفس القيمة.

    اقترض جدلا أن للحياة قيمة, هل هذا يعني أني استطيع ان اقيس هذه القيمة واخبرك ان حياتك قيمتها اعلى من قيمة حياة صديقك؟ وأن بإمكاتك أن تستبدل حياتك بشقة وسيارتين؟

    أتفق معك أن الاشياء لا قيمة لها, لكن هذا لا يعني أن لا جدوى منها, أو أن أي ارتباط نكونه تجاهها هو ارتباط وهمي لا يختلف عن تهيؤات المرضى. الاشياء لا قيمة لها عندنا لأنها تتجاوز التقييم بالنسبة لنا وارتباطنا بها هو ارتباط ذاتي غير قابل للتعميم, ولكنه ارتباط حقيقي.

    - أنت تفرد مساحة كبيرة لفكرة الموت على سطورة, حقيقة أني لا استطيع أن أجد تعليق أفضل من هذه المقولة لمارك توين: أنا لا أحفل بالموت, فقد كنت ميتا لملايين السنين قبل ولادتي ولم يؤلمني ذلك على الإطلاق.

    - أنا أكتب هذه الكلمات وأنا أتسائل عن مدى الجدية التي يجب أن أتعاطى بها مع نصك الأدبي, النص الأدبي في النهاية حالة ذاتيه قد تعبر عن مزاج أكثر من كونها تعبر عن مبدأ. على كل حال, أنا استمتعت كثيرا بما كتبه, ويبدو أني سأكون صديقا دائما لمدونتك, حتى وإن أختلفت معك في بعض طرحك.

    ردحذف
  2. أهلا بك استاذ سعود,
    أولاً أشكرك على اهتمامك وتعليقك الذي أسعدني كثيراً, لكن أريد أن أوضّح شيئاً أعتقد أنه غاب عنك عند قراءتك النص, النص هو جزء من رواية مسلسلة أقوم كتابتها ونشرها بشكل دوري على المدونة (http://a-saker.blogspot.com/p/blog-page_16.html ) لهذا يسقط جزء الذاتية الكاملة للنص التي افترضتها في تعليقك, بالتأكيد الراوي في هذه الرواية يمثّل جزء ما من أفكاري وقلقي ربما, لكنه في النهاية شخصية صنعتها ولا تمثّل مبادئي أو أفكاري بالضرورة -أنا أبعد مايكون عن السوداوية والعدمية بالمناسبة-.

    لهذا أجد تعليقك فرصة جيدة لتفنيد تفاصيل الشخصية وربما تطويرها وإضافة جوانب اخرى لها, لذا اسمح لي أن أناقش الفكرة معك على لسان هذه الشخصية.

    أيضاً ارغب في توضيح أن الشخصية التي أتناولها في النص ليست "كئيبة" أو "رتيبة" بشكل كامل, ولمعرفتي أن بعض القراء قد يضعوا الشخصية في القالب السوداوي النمطي بدأت النص بهذه الكلمات:
    "أُحب أن انظر للأشياء دائماً بشئ من التفائل والإقبال"

    لهذا فأجد نقطتك الأولى في اعتبار نظرة الشخصية للحياة على انها كئيبة ربما كان بسبب افتراضك أني صاحب الكلمات, في الحقيقة أجد ان هناك اتفاق كبير بين ماطرحته والتفاصيل التي وضعتها للشخصية-

    -سأتحدث بلسان الشخصية الآن-

    - ربما ترغب في التأكد من أني أكره الحياة أو أبغضها بصورة ما, لكنّي أخبرتك مسبقاً أن الحياة مليئة بالأشياء, لا أجدها كئيبة أومحزنة, أراها كما هي, المحزن منها والمُفرح, لا أُلصق بها معنى ولا أجد أني بحاجة لأن أجد لها معنى, ولهذا قلت:
    " الدنيا ممتلئة بالأمور التي تحاول إلهائك عن ادراك الحقيقة, حقيقة أنه لا معنى لأي شئ, لا توجد حاجة لأن يكون هناك معنى لأي شئ"
    ولهذا ستجد أني لم أتشبث بفكرة القيمة وأجد ادراكنا للأشياء هو مجرد سبب لتوكيد وإدراك الذات, أجد أن ادراك الأشياء وإدراك قيمتها فعل ذاتي شخصي جداً ولا يجوز قياسه أو تعميمه, كما قلت مسبقا, أحمرك أزرقي, وأزرقك أحمري.
    أكيد الارتباط حقيقي, أخبرني صديقي المختبئ أنه سعيد بوجوده في الحياة وأنه يجد شعوره ذلك حقيقياً, لكني أتسائل عن الفائدة من التفاعل أو الارتباط بأي شئ؟ ما نقوم به هو تماشي مع رغبة الأشياء في الهائنا, كأننا نقول, نحن موجودون الآن ولا يمكننا تغير هذا, لنلهو في الحياة اذا حتى يأتي ميعادنا, هكذا أخبرت صديقي:
    "أترى؟! هذا ما أعنيه بالضبط, لو لم نوجد لما احتجنا أو أردنا أي شئ."
    الموت كفعل لا يهمني في شئ, وكما أخبرتك من قبل, أراه كرتابة من رتابات الحياة عديمة المعنى, لكنى أراه مخرجي الوحيد إلى الانعدام, ربما خدعني ادراكي, محاولاتي لمحاكاة العدم وانا أتنفس لا تجدي نفعا, وجوه الموتى تثير حقدي, أريد أن أنعم ببعض هدوءهم, ولكني محبوس معكم في هذه الحياة كما ترى.

    -انتهى-

    أشكرك جداً يا استاذ سعود على اتاحة هذه الفرصة, أعتقد أني سأقوم بتضمين هذا الحوار بصورة ما في الرواية في مرحلة ما -بعد اذنك طبعاً-, يسعدني جداً أن تكون من أصدقاء هذه المدونة, سيكون هذا دافعا لأتقن كتابتي في المرات القادمة.

    ردحذف