-ترنيمة على جدران هرم أوناس
أُحب أن انظر للأشياء دائماً بشئ من التفاؤل والإقبال، لهذا عندما أفكر في الموت أراه مجرد رتابة من رتابات الحياة، أراه فرصة محتملة لتفسير حالتي الآن وربما في معظم الأوقات، لحظة السكون تلك التي أجلس فيها، بصمت، مبتسماً ببلاهة، فارغ الذهن، في محاولة لمحاكاة العدم، هي لحظات متواترة، أرغب فيها في التكوّم في صندوق صغير مُغلق، مفتاحه في قلب الشمس، تمر تلك اللحظات بسلام وأعود مرة أخرى إلى صخب الحياة، أعي أن مسالمتي هذه تثير سخرية البعض، لا بأس، أستطيع أن أتفهم الأسباب، أتفهم تماماً أن الوجود ممل، أتفهم تماماً ما قد يجلبه التفاعل مع الأشياء من متاعب وآلام، أتفهم تماما أن قيمة أي شئ هي وهم مصطنع، الدنيا ممتلئة بالأمور التي تحاول إلهائك عن ادراك الحقيقة، حقيقة أنه لا معنى لأي شئ، لا توجد حاجة لأن يكون هناك معنى لأي شئ، المعاني ملحقات مصطنعة وألفاظ بلا سَنَد، لا توجد حتى طريقة للتأكد من ان ادراكنا واحد، الألوان مثلاً، ماذا لو أن ما أراه أحمراً في عيني تراه أنت أزرقاً في عينك؟ هذه المعاني تخصني الآن، أزرقك أحمري، وكلانا نطلق عليه أحمر، ماذا لو كان الأزرق الذي أراه أنا في عينك تراه أحمراً؟ هذه المعاني تخصك الآن، أحمرك أزرقي، وكلانا نطلق عليه أزرق، وكلاهما معناه افتراضي، ماذا لو أن كائناً فضائياً يري في اللون الواحد ألواناً عديدة لا ندركها نحن؟ لا معنى حقيقي لإدراكنا، هي وسلية لتوكيد الذات بكل خصوصيات معانيه ونِسَبه، وهي حالة من العبث مثلها كالموت تماماً، نعود اذا إلى الموت، كما أخبرتك سابقاً، لا أري في الموت غير شئ آخر من الأشياء عديمة المعنى في هذه الحياة، من المفترض أن دورنا في الحياة طبعاً هو إضافة معاني لهذه الأشياء كنوع من توكيد وإدراك الذات، بعضهم قد يستهسل إجابات جاهزة مُسبقة، بعضهم قد يقضي عمره كله في محاولة للوصول لأسطورة الكمال وإدراك المعاني الحقيقية للأشياء، والبعض الآخر لا يشغل باله، فالحياة ممتلئة بالأشياء، وهذا مايهم، هؤلاء يرون أنه لا جدوي من البحث عن معنى أو سبب، بعضهم يعيش حياته متشائماً كنوع من الشعور بخيبة الأمل، كأن جزءاً ما في عقلهم الباطن يتمنى أن يجد تفسيراً لكل هذا، في حين أني أتفهم تماماً تشاؤم هؤلاء وانعزالهم، إلا أني لا أستطيع انكار شعوري بالشفقة تجاههم، طبعاً لا يعنيهم شعوري هذا، فهو أيضاً بلا معنى حقيقي، هو مجرد شعور صنعه خيالي ليزيد من ثقتي وإداركي لذاتي ربما، قد أكون مخطئاً، لكن الحياة مليئة بالأشياء كما ذكرت.
- الابتسام... فعل الابتسام هو أحد الأشياء التي تبقيني متفائلاً، اعني هنا ابتسامي أنا، دعني أخبرك عن شئ يحيرني، الروح، لا أستطيع أن أجزم بوجودها، لكني أيضاً لا أفهم ما الذي يجعلني أشعر بالراحة لمجرد تحريك بعض عضلات الوجه، ربما هو تفسيري الخاص، الروح بالنسبة لي هي اللاشئ، حالة العدم التي أحاول محاكاتها تكراراً، ربما كان الناس مُخطئين، ربما تعود الروح للانسان حين يموت، عندما أنظر لوجوه الموتى أجد سلاماً غير اعتيادي، يشابه السلام الذي ينتابني حين أبتسم، مرة أخرى سأذكرك انّي أوصف ادراكي للأشياء، لست بحاجة لأن تتفهم ما أقوله أو أن تجد له معنى، هي أشيائي وهي موكدات ذاتي، أنت تعلم أني أحب التمشّي في الشوارع المزدحمة، وحيداً وسط كل هذه التكدسات من البشر، بالتأكيد لا يوجد سبب أو معنى لما أفعل، لكن بقايا الابتسامة تلك تخبرني أن روحي تبحث في معرض الوجوه هذا عن وجه آخر مبتسم، وجه آخر يستمتع ببعض السلام، بالتأكيد في كل مرة أعود بوجه جامد لا تفسير له كالحياة، هذا ما أعنيه، أغبط الموتى، أريد بعضاً من سلامهم.
"الروح في النعيم، الجسد على الأرض"
-نص على بردية تنتمي للأسرة السادسة
- تريد الانتحار؟!
- لا، لم أفكر جدياً في الانتحار، لا أري فيه أي سلام أو سكون.
- يمكنك استخدام السم ربما، يمكنك أن تموت في نومك!
- لكني رأيت وجوه المنتحرين، أنا مهووس نوعاً ما بصور الموتى كما تعرف، هل انت بالسذاجة التي تجعلك تصدق أني لم أفكر في الانتحار؟ دعني أعترف لك، أنا جبان، ربما هذه مصدر تفاؤلي، لكني رأيت وجوه المنتحرين، تبدو ساخرة، تبدو مضطربة، كأنهم أرادوا أن يسخروا من الحياة فلازمتهم حتى في سكونهم، أريد أن تتركني الحياة في سلام، لتأتي الروح، لا أعتقد انها سترضي باضطراب وجهي المنتحر.
- هذا تفسيرك انت كما قلت، تحاول تبرير جبنك واضطرابك انت.
- ربما، لقد اعترفت، لا أعتقد أني جبان بمفهومك انت، أظن ان الجبن من الأشياء السلبية في منظورك، أراه أنا نوعاً من التريّث، فيه هدوء وسلام، ربما لو كنا جبناء لما حدثت أي من الحروب أو الأشياء المحزنة في هذه الدنيا، ربما حينها أيضاً لما أقدمنا على فعل أي شئ، وبقينا في هدوء وسلام إلى أن تنزل علينا أرواحنا، ربما حينها لكان تراجع آدم وحواء عن الأكل من شجرة المعرفة وماتركتنا أرواحنا، ربما حينها لتراجع الشيطان عن مقاومته مشيئة ربه، ربما حينها لتراجع الرب عن خلق كل تلك الأشياء، ربما لتراجع الرب عن الوجود في عقول الناس، لكن هذا لم يحدث، أرى الخمول حالة من الصفاء، ربما هذا ماتعنيه حياتي في نهاية الأمر، ذلك اليوم الذي سترضي فيه روحي عني.
"سوف تبقى في الوجود ملايين ملايين الحيوات، فترة من ملايين السنين"
-نص على بردية تنتمي للأسرة السادسة
-لا أعتقد أني أفهم شعورك هذا، فكل الأشياء في حياتي حقيقية، وأنا سعيد، هذا حقيقي، أنا حي الآن أيضاً، وهذا حقيقي، كما أني أشعر بالحزن حين يموت أحدهم، وهذا حقيقي، الموت بالنسبة لي شئ بغيض، هكذا أراها، الحياة مليئة بالأشياء كما تقول، أما الموت...
- تشعر بالحزن لأنك فقدت أحد الأشياء في حياتك، لا لأن فعل الموت "بغيض"، حزنك على الموتى يكون لأنك تدرك ان هذا الشخص لم يعد جزءا من حياتك، ستفتقد وجوده في حياتك انت، لن تفتقد حياته هو، فهي لم تكن ملكك من البداية، هنا جمال الموت، هو شئ خاص جداً لا يمكنك أبداً مشاركته، بالتأكيد ستحزن لموته لكن حزنك لنفسك وعالمك، لا شئ يخصه في حزنك هذا، فقد حصل هو على السكون الذي يستحقه، أيضاً الأشياء التي تملأ الحياة، ما معناها عندك؟ بالنسبة لي كل الأشياء خطوة في طريقي للحصول على السكون، هذه حقيقة، انظر إلى هذه الصورة المعلقة هناك، هذه التقطها لي أبي وأنا في السابعة من عمري، انظر إلى الآن، هل ترى الفرق؟ أنا أقرب الآن إلى السكون.
- إذا الأشياء في حياتي خطوة في طريقي للحصول على السعادة، والموت بالتأكيد يعترض ذلك.
- السكون... السعادة... أحمر... أزرق... إدراكنا مختلف، لا أعتقد ان هناك اختلاف، ربما نظرتك للموت تأثرت باهتمامك بحياة الآخرين، عندما تراهم يموتون، ربما لو استخدمت ألفاظك سأجد ان الموت سعادة، السعادة تأتي كنتيجة للتفاعل مع الأشياء، وكذلك الحزن، ربما عالم بدون أشياء سيكون أكثر دعوة للسعادة، هل ترى؟ لن تحتاج لأن تشعر بالسعادة لتكون راضياً، لن تحتاج لأن تشعر بأي شئ.
- لكني بالتأكيد أريد الشعور بأي شئ، كان هذا سعادة أو حزن، هذا دليل على وجودي.
- أترى؟! هذا ما أعنيه بالضبط، لو لم نوجد لما احتجنا أو أردنا أي شئ.
- نعم، ولكن ها نحن الآن جالسين نتحدث لبعضنا الآخر.