الأحد، 18 سبتمبر 2011

الزائر ‘ع‘ [#2]



(2)
أم عبده


رأيت في طريقي إليك اليوم رجلاً عجوزاً, كان جالساً على احدى الكراسي الملقاة على طرف الطريق, كان بجواره شئ حي يتحرك, ربما كانت قطة, لست متأكداً, كان جالساً كجلستنا نحن الآن, عينان تائتهتان تلتقيان بالفراغ, وفم مغلق باحكام, بالتأكيد هو غائب, كما نحن الآن, هل تدري أني سعيد الآن؟ سعيد لأني لست بحاجة لتحريك شفاهي للتحدث معك, سعيد لأني أعلم انك تفكر فيما أفكر فيه الآن, أحرك يدي فتحرك يدك, أقوم لأتمشّى فتقوم معي, تغادرني في بعض الأحيان, تعارضني وأنت متفق معي, هل أخبرتك أني سعيد بوجودك؟! انت تعلم اني لا احب وجود الأشياء, لكن معك الأمر يختلف, وجودك ينفي وجودي, احدانا موجود, كلانا معدوم, لم أرى العجوز إلا للحظات وأنا في الحافلة, أعتقد انه كان يفكر في الموت, انتظر لا تتكلم, ادرك انك ستخبرني أنه يفكر في حياته السابقة, ربما في فترة طفولته وأشباح أصدقاءه في المدرسة, بالتأكيد لا يتذكر أسماءهم أو وجوههم, فقط يتذكر أنها قضي معهم أياماً أفضل, بالتأكيد لا يتذكر تعرّضه الدائم للتنمر, أو توبيخ ابوه المتواصل له, أو ربما يفكر في فترة شبابه, بالتأكيد يتذكر صديقه عماد, والسهرات التي قضاها في شقته المستأجرة تلك على احدى أسطح مباني وسط البلد, ربما يحاول تذكر من قبلوا الصعود معه إلى عشّته تلك في الدور التاسع, بالتأكيد لا ينسي رحلته تلك للصعود مع صديقاته لرؤية السماء, كان يعتبرهن كلّهن صديقاته, لا أعتقد انه يتذكر حتى وجوههن, ربما لهذا السبب لا تطول رفقته, فهو ينسى الوجوه والأسماء, تبقى في ذاكرته أشباح أفعال ومشاعر ربما, هذا كل ما في الأمر, هذا كل ما تبقى له من حياته, لكنه يتذكر احداهن بوضوح, سامية, رفضت أن تأخذ منه مالاً, لم تكن رفيقته لكنها رفضت المال, ابتسمت له حينها وأخبرتها انهم متعادلان الآن, كان طيباً, ربما كان يسترجع ذكرياته مع عماد في حفلة مغنيهم المفضل, كيف ان سحبه عماد من أمام عربة المغني سريعاً قبل أن تدهسه, سيتذكر بعدها ان عماد مات في الحرب, أخبروه أنه مات دون أن يحارب, مات في نومه, لا أدري لماذا ابتسمت حين اخبروني, انتظر, أقصد هو لا يدري لماذا ابتسم حين أخبروه, كان مقتنعاً أن عماد لا يمكن أن يقتل, لم يكن هذا بدافع الطيبة واحترام حياة الآخرين, كان بلا سبب, كوجوده في الدنيا تماماً, كلاهما بلا سبب, لم يرغب في إيجاد أسبابه الخاصة, كانت حياته تبدأ من جديد كل صباح, كنت مثله, أأ.. أقصد كان العجوز مثله, كان هكذا حتى رفدته الجامعة, وأصبح شريداً, كان جائعاً بالتأكيد لكنه لم يمد يده أبداً, ليس تعففاً منه, لكنه لا يرغب في أن يشغل الناس بحياته, لا داعي لهم لمساعدته ولا حاجة له بمساعدة نفسه هو أيضاً, لو كان مد يده غلى نفسه لنظرت له بجمود وأكملت سيرها, لكنه تغيّر, تغيّر دون أن يدري, خدعته الحياة والناس وأصبح يفكر في أصدقاءه وحياته السابقة, أصبح يجلس على الكراسي الملقاه على أطراف الشوارع, لأراه أنا وأنا في طريقي إليك.

- هل تتذكر "ام عبده"؟ طبعاً تتذكرها, هذه أول مرة التقينا فيها, كنت طفلاً صغيراً حينها, اعتدت زيارتها والجلوس بجوارها على عتبة منزلها, كانت طاعنة في السن حينها, كانت وحيدة أيضاً, تزورها بنتها أحياناً, كنت أجلس بجوارها كل يوم, كنا نتحدث, لا أتذكر أيا من حديثنا, لكني أتذكر صوتها بوضوح, كان فيه بحّة هادئة, كانت ترتدي نظارة, كان لديها وشما على ذقنها وبجوار عينها, لا أتذكر جيدا شكل الوشم, ربما كانت خطوطا عريضة, كنت أجلس معها بالساعات, لا أظن أننا كنا نتحدث كثيراً, علّمتني الصمت, علّمتنى التحدث إليك ايضاً, كنت قبيحا يومها, هل تتذكر؟ يوم أخبرتني أمي أنها ماتت, لم أرتكب أي خطأ, فقط ذهبت إلى العتبة ولم أجدها, سألت أمي فأشارت إليك, لم أفهم ما تعنيه, لم أكن أدرك معنى الموت حينها, طبعاً كنت أعرف انه يعني أن أحدهم سيتوقف عن التنفس ليقيموا له جنازة يدفنوه فيها في الأرض, لكني كنت أريد الجلوس بجوارها, لماذا اختفت فجأة؟ لا أستحق أياً من هذا, لم أرتكب أي خطأ, كنت من أوائل المدرسة, كنت أطيع أمي وأكل البيض واللحم, كنت أذهب لصلاة الجمعة مع والدي, فقط أردت الجلوس بجوارها, أهذا كثير؟ لماذا أتيت؟ هاه؟ كنت سعيداً, لماذا رافقتني طوال الوقت وأنا أكرهك؟ هل كنت تعلم من البداية أني سأسعد بوجودك معي الآن؟ 

- سعيد, يا سعيد... استيقظ يا رجل..

- هاه؟ من انت؟

- عيب عليك يا رجل, أنا عماد, إذا كنت متعبا فاصعد الى غرفتك, لا يجب أن تنام على الكرسي في العراء هنا, ليس جيدا على صحتك ياصديقي

- حسناً حسناً, أين سامية؟ 

- وما علاقة الممرضة بنومك هنا؟

- انا ضعيف ولا أستطيع تحريك الكرسي, وانت أيضاً على كرسي مثلي وكلّ من حولنا على كراسي, كيف لي أن اصعد إلى غرفتي؟

- معك حق, فلننتظرها معاً إذاً...

- عماد, هل تتذكر تلك الحفلة التي حضرناها معاً؟

- أي حفلة؟

- تلك التي انقذتني فيها

- أي حفلة يا رجل؟ هل بدأت تخرّف مجدداً؟

رددت بهمهمات غاضبة وأغمضت عيني مجدداً.

من المحزن أني الوحيد الذي أتذكر حياتي, لا أدري كيف أفكر في الأمر بعد كل هذه الأعوام من الانعزال, فأنا بالتأكيد لا ارغب في مشاركة حياة أحداً آخر, فقد أخبرتني أم عبده مرة ان "كلّ فيه ما يكفيه", لم أرغب في إزعاج الآخرين, بالتأكيد انت معي الآن, لكني كرهتك في البداية, اخبرني, هذا السؤال حيّرني منذ أن بدأت أسعد بوجودك, لماذا انت مُصِر على مرافقتي؟ كيف جعلتني أحبك؟ لقد سلبت مني صديقي الوحيد, طاردتني في كل مكان, وحين توقفت وجلست على الكرسي جلست بجواري دون أن تفعل أي شئ, لماذا؟ لقد توقفت عن الهرب كما ترى, أنا الآن جالس على كرسي أمامك, انت تعرف أني لن أقاوم, انت تعرفي أني لا أستطيع أن أقاوم, أنت تعرف أني لا أريد أن أقاوم, لماذا تجلس بجواري إذا؟ حسناً, لا ترد, أنا أفهمك, تريد أن تعطيني وقتاً لافكر فيه في حياتي السابقة؟ لماذا؟ هل تظن أن هذا سيحزنني؟ هل تظن أن هذا سيجعلني أتمنى العودة؟ هل تظن أن هذا سيجعلني أتمنى مشاركة حياتي مع الآخرين؟ حسناً, لقد كسبت, أنا حزين, لكن انت تعلم أني لا أستطيع اخبارك ذلك, لقد كنت سعيداً من قبل بوجودك, لقد جعلتني أنسى لماذا كنت سعيداً بوجودك, لماذا ذكّرتني بأم عبده؟ لقد كرهتك لمرة واحدة, هل تتذكر؟ لقد ابتسمت حين أخبروني أن عماد مات, هل تظن اني ابتسمت لأنه لم يقتل أحداً؟ لا, كنت أتمنى أن يقتل الجميع, كم أتمنى أن أقتل الجميع, ربما حينها ستنشغل عني, لماذا انت جالس إلى جواري الآن, افعل شيئاً.

- أبو سارة, يا أبو سارة...

- ايه... نعم؟ أهذه انت يا سامية؟

- نعم, اخبرني الاستاذ عماد انك ترغب في الصعود إلى غرفتك, لماذا لم تناديني

- لكني كنت أناديك..

- كيف هذا؟ لقد أتيت للاستاذ عماد من أول نداء

- ربما لأن صوتي ضعيف

- نعم صوتك ضعيف ويجب أن ترتاح

(3) السمكة الصفراء-->

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق