الثلاثاء، 20 سبتمبر 2011

الزائر ‘ع‘ [#3]

<-- (2) أم عبده
(3)
السمكة الصفراء


الساعة الرابعة صباحاً, وأنا بخير الآن, في غرفتي الخاصة بدار المُسنين, غادَرَت سامية الغرفة منذ قليل, تركتني لأستمع لصرير الفجر, ذلك المزيج بين عرير الصراصير ونقيق الضفادع وما شابه من كائنات, هناك أصوات لبعض العصافير أيضاً, كنت قد ظننت أني اعتدت على سماع هذا الضجيج حتى أصبح جزءاً من تركيبة أذني, ألحظ اختفاءه ولا ألحظ وجوده, كنت هكذا حتى فترة قريبة, حتى أتيت إلى هذا المكان, حينها أصبحت أسمعه بنقاء, حينها أكتشفت ان هذه الأصوات كانت جزءا من حياتي طوال كل هذه السنين, أصبحت أحلم بهذه الأصوات مؤخراً, أسأل اصدقائي إن كانوا يسمعوها هم أيضاً, كنت أعتقد انهم مثلي, لكن يبدو أني عشت حياة أكثر إثارة, استنتجت هذا لأني أفتقدها, أجدهم مرتاحين, في حالة من الهدوء, كنت أظن انها اصطناع, كنت أنتظر انهيارهم, لم أسمع أحدهم يهلوس أبداً, أصبحوا يتندرون على حديثي معك, لم أرى أحداً فيهم يبكي أبداً, لم أري أحد فيهم ينظر إلى بصدق, كانوا بلا أرواح, لقد أخبرتك ياصديقي, أنا بلا روح أيضاً, لكنّي أنتظرها, هم لا يكترثون, كأن كل هذه السنين لم تمر, لماذا جعلتني أتذكّر؟ ربما هم لا يتذكرون, ربما لهذا السبب هم سعداء, أنت تعلم جيداً أني أخرّف, لماذا أتذكر فقط الأشياء السعيدة في حياتي؟ هذا يجعلني أحزن الآن, أعلم, راودني هذا الشعور طوال عمري, حين كنت شاباً تمنيت أن أعود طفلاً أيضاً, حين كنت أباً تمنيت أن أعود شاباً أيضاً, لكني كنت سعيد, لماذا تغيّر كل هذا؟ أنت تعلم أني لم أعرف عماد إلا عندما جئت إلى هنا, لم أعرف هذه السمكة الصفراء النائمة في ركن الغرفة إلا مؤخرا أيضاً, أحضرتها سامية لتزيل عني شعور الوحدة, هل سمعت عن الأسطورة الشعبية التي تقول أن السمكة ذاكرته قصيرة؟ لقد بدأت أصدقها, أرى نفس التعبير وحركة العيون على السمكة كل صباح, تقوم بنفس الحركات في نفس الظروف, أعتقد انها لا تتذكر حتى انها في قفص زجاجي الآن, لا تتذكر انها وقعت في شباك صياد ما, لا تتذكر انها كانت في البحر يوما ما مع رفاقها, أو ربما انها تربّت أصلا في احدى مزارع الأسماك, كل هذه الأشياء لا تهمها, كل هذه الأشياء لا تتذكرها, لكني أتذكر, لماذا جعلتني أتذكر؟ لماذا جعلتني حزين؟ لقد أخبرتك من قبل أني سعيد بوجودك, حسناً, لقد كذبت, أعني... كنت صادقاً حينها لكني كنت أهلوّس, لم يذهب عماد معي إلى الحفلة تلك, كان أحداً آخر, لا أتذكر اسمه, اتذكر ما فعله, لكن عماد موجود, عماد يذكّرني به, لماذا يذكّرني عماد به؟ هل أذكره أنا بشخص آخر؟ هذا ليس عدلاً, لماذا أتذكر سامية أيضاً؟ عرفتها هنا؟ لم تكن مومس, ممكن, كان من الممكن أن تكون مومساً في ظروف اخرى, لكن لماذا أتذكرها؟ أنا لم أعرفها حتى الآن, كيف أتذكرها عارية على سريري وأنا عجوز؟ كنت أظن ان هذا الشغف بالأجساد العارية سينتهي يوماً ما, أنا في آخر عمري, لماذا أحتفظ بهذه العادة؟ لقد شغلت بالي, كنت أتمنى بعض السكون, سأتوقف عن السؤال, يوماً ما ستأخذني معك إلى ذلك المكان الذي تذهب إليه كل يوم حين أنام, انت تتركني حين انام, أليس كذلك؟ لماذا قد تبقى؟

ذكّرتني السمكة بخمّارة الخواجة "بنايوتي", ما أتذكرة عن الخمّارة ضبابي تماماً كزجاج هذا الحوض, ذهبت إلى الخمّارة عندما زرت القاهرة لأول مرة, كنت أتجوّل فيها بلا هدف, كنت لا أخشى التوهان حينها, كان إدراكي للاتجاهات قوياً, كانت قدمايا تساعدني على المشي لمسافات طويلة, لم أكن بحاجة لطرق مختصرة, قادتني قدماي حينها إلى الظاهر بشبرا, بين كل السنوات التي عشتها أتذكر بوضوح عام 1936, بين كل الوجوه التي مرّت علي أتذكر وجه تلك المومس, فقط وجهها, كم أتمنى أن أتذكر اسمها, أرغب في كتابته في كل مكان, أرغب في منادتها حتى تأخذني معك, لا أصدق انها مرّت على هذه الدنيا دون أن يلحظها أحد, أنا أتذكرها, أتذكر وجهها, أريد أن أرسمه, هذه هي, سأرسمه... انتظر, لماذا أفكر في سامية الآن؟ كم أكرهها, لماذا تعبث بذاكرتي؟ ألا يكفيها اني لا أتذكر اسمها؟ رأيتها لأول مرة في الخمّارة, كانت تقف بتوتّر بجوار "البنك", ذهبت وطلبت كأسين, دعوتها بتغزّل, شربنا في صمت, شربت الكأس ورمته للساقى, وخرجت مسرعة وهي تتعثر في الهواء, لم تنطق بحرف واحد, أردت حساب الخواجة لكنه تمنّع ورفض, أخبرني أني "زبون" جديد, دائما القادمون الجدد يتمتعون بميزة مجانية المشاريب, شكرته وهرولت خارجاً, أردت تتبع الفتاة, خفت أن أضيعها, كانت رائحتها مميزة, لازلت أشعر بأثرها في أنفي الآن حين أتذكر وجهها, تتبعتها في الظلام, كان الوقت متأخراً والشارع يخلو من الحياة, كانت أصوات خطوات الأقدام فاضحة بشكل لا يمكن تفاديه, أظن انها تعرف أني اتتبعها الآن, أتمنى أن تظن بي خيراً, فقد عزمتها في الحانة, أنا فقط مهتم, أتمنى أن تتفهم ذلك, مشينا طويلاً, لم أدري كم مر من الوقت, وجدت نفسي في مكان غريب, لم أدرك كيف سأعود, خانتني حاستي في ادراك الاتجاهات هذه المرة, رأيتها تدخل بيتاً سأعرف فيما بعد انه بيت بغاء, في هذه الساعة بالتحديد قابلت عماد, كنت أقف أمام شرفة البيت الذي دخلته الفتاه, على أمل أن تخرج لتلقي علي نظرة من المشربية, ربما أكون قد نجحت في لفت نظرها, كانت عيناي متسمرتان ناحية المشربية, ربما مرّت ساعات, لا أدري, يكاد يحلف لي عماد أنه ظل يراقبي ما يقارب الساعتين دون أن أتحرّك من مكاني, أخبرني أنه شكّ في أمري, لهذا خاطبني بغلظة أوّل مرة

- انت يا أفندي!

- هاه؟ نعم؟ يلزم خدمة؟

- انت بقالك ساعتين ملطوع هنا زي عامود النور , وانت شكلك غريب عالمنطقة, فيه حاجة يا أفندينا؟

- لا ولا حاجة, أنا آسف, أنا... أنا كنت مستني واحد صاحبي هنا والظاهر مش جاي, فوتك بعافية

- استنى خد تعالى هنا

- لا أنا لازم أمشي دلوقتي, أنا آسف, سعيدة

- بقولك خد تعالى هنا, انت عينك متعتعتش من على بيت المعلمة أم سعيد من ساعة ماجيت, انت ليك حاجة هناك؟

- انت تعرف اصحاب البيت ده؟

وهنا ضحك عماد ضحكة ساخرة وقال:

- هأأو, إلا أعرف, هو فيه حد ميعرفش البيت ده, ده الحب كلّه هناك

- قصدك إيه؟

- لاا ده انت حكايتك حكاية, تعالى تعالى وأنا افهّمك على كل حاجة

هنا أمسك عماد بيدي وسحبني إلى بيت "أم سعيد", بعد أن طرق الباب, فتح له طفل صغير تبدوا علامات ضرب شديدة على رأسه ويداه

- روح ياض انده المعلمة

- الست نايمة دلوقتي ومحرّجة عليا محدّش يصحيها

- طيب مين صاحي هنا

- سامية لسة راجعة ميغلّقش, أصحيهالك؟

- روح يالله قوام..

جلست أنا وعماد في القعدة, لم أنطق بحرف, كنت خائفاً, كنت حائراً, لا أعرف كيف تطورت الأمور بسرعة هكذا, كل ما أردته هو رؤيتها من الشرفة, لماذا يتصرف معي عماد هكذا؟ لم أعرف إجابة لهذا السؤال أبداً, لم أتجرأ على سؤاله هذا السؤال, قد يظن اني أشتكي, كان يظن دائما أني خجول, لهذا كان يحاول مساعدتي, ربما كان على حق, لكني تتبعتها إلى هنا, هذا حدث, لكنها ظهرت, دخلت علينا بهدوء.

- سعيدة

- يا ألف سعيدة وسعيدة, يادين النبي... إيه ده كله إيه ده كله, جبتي الجمال ده كلّه منين يابت

- اسكت انت يا موكوس, ازيك يا استاذ؟

- أنا؟!... أنااا.. أنا تمام والحمد لله

- هئ هئ, انت من اللي بيتكسفوا؟!

- ده أنا لقيته واقف ملطوع قدّام البيت ولا الساعتين, كله عشان ينال من الحب حتة يا حتة انت يا حتة

بعد ان انتهى عماد من زعيق هذه الكلمات بصوت السكرانين ساد الصمت لبعض الثواني, كانوا أثقل ثواني مرّت علي في حياتي, بعدها قام عماد.

- طيب أنا هسيبكم بقى تاخدوا راحتكم, لما تخلّص يا أفندينا هتلاقيني قاعد على قهوة الوفا, عاوزك في كلمتين

لم أعرف كيف أرد, أومأت برأسي في ذهول, كيف حدث كل هذا؟ أنا معها الآن في غرفة واحدة, آآه كم أشعر بالخجل من حالي في تلك الأيام, كنت خجولاً جداً, لم أعتد هذه المواقف.

- انت منين يا أفندينا؟ شكلك غريب على المنطقة.

- دي أول مرة أنزل فيها مصر, أنا من المنصورة

- يا أهلا وسهلا بأفندية المنصورة, أهلها ناس طيبين, يا أهلا وسهلا

- أهلا بيكي...

ساد الصمت لفترة, صمت يشابه ما حدث في خمّارة "بنايوتي", أعطاني هذا الفرصة لأدقق في وجهها, ربما لهذا السبب أظن أني أتذكر وجهها الآن, هذه اللحظات مطبوعة في ذاكرتي كأنها كانت موجودة فيها منذ ميلادي..

- انت جاي هنا زيارة ولا قاعد في لوكندة؟

- لا أنا ساكن في العتبة, في أوضة صغيرة كدة على السطوح

- انت جاي مصر تعمل إيه؟ متأخذنيش في السؤال ياخويا, بس بستفسر

- جاي في مصلحة, لو انقضت هنقل وأقيم هنا

- بقولك إيه, المكان هنا خنقة, ماتيجي نروح مسكنك

- طيب نستنى شوية التروماي لسة مشتغلش

- بتعرف تسوق؟

- لا, حتى لو بعرف, هسوق إيه؟

- طيب متشغلش بالك, ولا يا عبده, روح انده لعماد يالا

- طيب فهميني فيه إيه بس؟

- تعالى أوريك حاجة

عندها أخذتني سامية إلى سيارة على ناصية الجهة المقابلة للبيت, أخبرتني أنها ملك أحد البشوات زبائن هذا البيت, لم أفهم حينها ما الذي تعنيه بـ"ـزبائن" البيت, ما كان يشغلني حينها هو أنه كان يتوجب علي تنظيف الغرفة, لم أكن أتوقع ضيوف بالمرة, خصوصاً لو كانت امرأة!, حضر عماد وهمست له سامية وهي تضحك, تقمّص عماد دور السواق وفتح لنا باب المقعد الخلفي, جلست بجوارها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق