هذه أولى سجلات التطوير التي سأكتبها بهدف توثيق مراحل تطوير لعبة الحد, ستكون فرصة لمناقشة العديد من المواضيع المتعلقة بتطوير وتصميم الألعاب, لا يُشترط أن تكون مهتما بالألعاب لتقرأ هذه السجلات, سيفاجئك مدى ارتباط المواضيع المطروحه هنا بمجالات أخرى كالكتابة والسينما والعمارة وغيرها من الأمور المعنية بالفن أو الترفيه, ستكون فرصة أيضاً لنقاش مواضيع اللعبة مع المهتمين بها وأيضاً خلق مساحة لإيجاد أفكار جديدة, إذا لم تكن تعرف ما هي لعبة الحد يمكنك الرجوع إلى هذه الصفحة .
سأتحدث اليوم عن بعض القرارات التي اتخذتها في كتابة وتصميم عالم لعبة الحد, سأتحدث أيضاً عن تقنيات الرواية في القصص التفاعلية (Interactive Storytelling) ونقاط تميزها عن أساليب الرواية التقليدية, أيضاً عن ضرورة استغلال المساحات المعمارية في إخبار القصة وإضفاء روح لعالم اللعبة, أو بمعنى أخر سأتحدث عن التقنيات التي أستخدمها لخلق عالم آخر بديل غريب على اللاعب وفي نفس الوقت قادر على جذبه وإغماره في التجربة.
رواية القصص التفاعلية
السؤال الذي سيتبادر إلى ذهنك عند قراءة العنوان عن ما أعنيه بـ"قصّة تفاعلية", في الواقع لم يجد أحداً إجابة نهائية لسؤالك هذا حتى الآن, فالتفاعلية تتطلب منك أن تكون طرفا مشاركاً أو"متفاعلاً", طبيعة التفاعل أو المشاركة هنا تتطلب التعريف, فلنقارن هنا بين أربعة من أشهر وسائط إخبار القصص: "الكتابة (المتمثلة في الروايات بشكلها التقليدي)" و"المسرح" و "الأفلام" و"الألعاب", في حالة الروايات يقتصر دورك على الجلوس وتقليب الصفحات والقراءة, القراءة وما يصحبها من إعمال الخيال والتفكير في النصوص المكتوبة, إذا يقتصر دورك هنا على استيعاب القصة المكتوبة أمامك وتخيل شخصياتها وعالمها معتمداً في ذلك على الوصف الكتابي, مهماً بلغت براعة الكاتب في تصوير العالم والشخصيات والأحداث سيظل دورك هو الشاهد مكتوف الأيدي, انغمارك في عالم الرواية سيقتصر على تخيلك للعالم بناءاً على تجاربك الشخصية أو حنكة الكاتب في التصوير, أيضاً قد تتقمص احدى الشخصيات اذا وجدتها قريبه منك, ولكن في النهاية الرواية ستدفعك بعيداً عن عالمها بحكم طبيعتها, أحداثها من صنع المؤلف, لا دور لك فيها, مهما انغمست في الرواية ستظل غريباً عنها, سبب كون الكتابة أكثر وسائط اخبار االقصة "احتراماً" ليس لأنها تتميز تقنياً عن الوسائط الأخرى, بل لأنها أقدمهم -أول فيلم كان The Horse In Motion عام 1878مـ وأول لعبة فيديو كانت Tennis for Two عام 1958مـ- وبالتالي فإن فرصتها في التطور والنضوج كانت الأكبر مما اتاح للكتّاب التجربة وترويض النصوص وخلق أساليب سرد أكثر تأثيراً, حيث دائما ماتكون البدايات مقتصرة على التسلية ثم تتطور لتصبح أكثر جدية, لذا إذا رغبنا في مقارنة عادلة بين تلك الوسائط يجب ألا نُقحم منتجاتها الحالية في الحكم, بل بمقارنة الممكن والمتوفر في تقنيات إخبار القصة, أيضاً يجب أن نعترف بخصوصية كل وسيط وانه لايجوز استبدال احدهم للآخر, إذا أردنا مقارنة الجانب التفاعلي في هذه الوسائط فعلينا أن ننظر إلي دور المُستقبل فيها, في حالة "الكتابة" يقتصر دورك على "القراءة" ومايصحبها من تخيل يعوض فقدان التصوير البصري والسمعي, أما في حالة "المسرح" و"الفيلم" فيقتصر دورك على "المشاهدة" مما يقلل فرصة احتياجك للخيال حيث تحضر الصورة والموسيقى بجانب الكلام -مع اختلاف طريقة استخدام هذه العناصر في المسرح والفيلم طبعاً-, أما في "الألعاب" فأنت طرف مشارك وذو وجود في عالم اللعبة, قادر على التفاعل مع الشخصيات الموجودة في اللعبة واتخاذ القرار المناسب وتخيل السيناريوهات المستقبلية لكل خيار, ولذلك اذا أردنا ترتيب تلك الوسائط من حيث التفاعلية والمشاركة ستكون كالآتي:
الألعاب > الكتابة > الأفلام = المسرح.
التفاعلية عنصر مهم جداً ووسيلة فعالة جداً في إغمارك في عالم القصة, مما يجعلها أقوى تأثيراً وأكثرها قدرة على طبع التجربة في ذاكرتك, وهنا تكمن قوة الألعاب وتميزها عن بقية وسائل القص, وهنا يكمن ايضاً سر اعجابي وتفضيلي للألعاب, تقدم لك الألعاب عوالم جديدة غريبة يمكنك أن تكون جزءاً منها, رؤيتها, سماعها, الاشتراك فيها والتأثير عليها والتي بدورها تؤثر عليك, تعطيك الفرصة لأن تتقمص شخصية أخرى وأن تكتسب تجارب جديدة من المستحيل أن تتعرض لها في دنياك, ستعطيك الفرصة للعيش في عوالم فانتازية, لـتسلق الجبال ومحاربة العفاريت أو حتى تقمص دور الاله, ستعطيك الفرصة لعيش تجارب جديدة, الشعور بالفقدان والضياع والرغبة في الانتقام والشعور بالبطولة وكره الذات والتمسك بالحياة وحتى الموت.
إذا الاستنتاج النهائي هو ان التفاعلية في الألعاب تتيح لنا فرصة رائعة وحصرية لتقديم تجارب جديدة أكثر تأثيراً.
السؤال الآن هو كيف سأوظف التفاعلية في لعبة الحد؟! للاجابة على هذا السؤال يجب اولاً أن أضع القصة أمام عيني, فآلية التفاعل تعتمد بشكل أساسي على القصة والموضوع المطروح, في فصل "قدمت كفأر" ترتكز اللعبة حول شخصية في آخر لحظاتها من الحياة, احدى الشخصيات الغنية في عالم اللعبة, وأنت هنا تتقمص دور شخصية أخرى شريدة تعتمد على السرقة للبقاء, التناقض هنا مقصود ومحرك اساسي في آلية إخبار القصة في اللعبة -التناقض عنصر أساسي في اللعبة وهذا ما سأتناوله في جزء اخر من السجل-, اللعبة هنا ستتولى مهمة تعريفك بالشخصية موضع الاهتمام وتقديمك إلى حياته, ستعطيك الفرصة لتعيش مخاوفه ورغباته, ستُريك كيف عاش حياته وكيف سيموت, ستعطيك فرصة اتخاذ قرارات تؤثر عليه وعلى عالم اللعبة بالإجمال, كيف سيكون هذا يا ترى؟!
سؤال وجودي -آه, وجودي-
هناك مشكلة تظهر عند محاولة إخبار قصة في لعبة, ففي الأساليب التقليدي للحكي تكون الشخصيات الموجودة في عالم القصة جزءاً متكاملاً منه, كل شخصية لها تاريخها وذكرياتها الخاصة, هذا ما يجعل الشخصيات متكاملة وقابلة للتصديق, لكن في الألعاب يظهر طرفاً آخر في عالم اللعبة وهو أنت, لكن هذه المرة أنت ضيف جديد على هذا العالم ولا تمتلك أي ذكريات متعلقة به, هنا تكمن أكبر مشكلة يواجهها مصمموا وكتّاب الألعاب, حيث أن اللاعب يوجد في حالة من فقدان الذاكرة (Amnesia), يلجئ مصمموا الألعاب إلى اشباه الحلول لتغطية هذه المشكلة, مثلا بعضهم يبدأ اللعبة بفيديو -فيلم تقديمي- يعرض لك فيه تاريخ الشخصية أو على الأقل المعلومات التي ستحتاجها لتقمص تلك الشخصية, البعض الآخر يقوم بتضمين فكرة فقدان الذاكرة في قصة اللعبة نفسها لا لشئ إلا لتفسر للاعب حاجة لاستكشاف غرفته مثلا على الرغم من انه من المفترض ان شخصيته عاش فيها طوال عمره, لا يوجد حل نهائي لهذه المشكلة أيضاً, لهذا ستجد أن معظم الألعاب الحالية من نوعية (بطل جديد يصل إلى المدينة), أفضل الحلول التي وجدتها لهذه المشكلة هو "نفي الذات" أو بمعنى آخر جعل نفي وجود الشخصية التي يتقمصها اللاعب لتصبح وعائاً يملأه اللاعب نفسه بتجاربه الشخصية في عالم اللاعب, على الرغم ان هذا يتنافي مع احدى مبادئ الرواية التقليدية ويُفقد الكاتب عنصراً أساسياً في الحبكة إلا ان هذا سيساعد الكاتب في التركيز أكثر على إخبار القصة من خلال البيئة المحيطة وجعل العالم الجديد الرواي الأساسي للحكاية, طبعاً لا يوجد حل مطلق لهذه المشكلة, الحل يأتي بناءا على الموضوع والقصة, بالنسبة للعبة الحد الهدف الأساسي هنا هو اخبار قصة الشخصية الأخرى في اللعبة وليس الشخصية التي يتقمصها اللاعب -أو على الأقل هذا ما أرغب في أن يظنه اللاعب في البداية-, لذا فاللاعب لايحتاج لمعرفة الكثير عن ماضي الشخصية التي يتقمصها, لكن لا تزال المشكلة قائمة, كيف سأفسر له حاجته لاقتحام منزل الشخصية الأخرى؟! اللاعب يحتاج معلومتين في هذه الحالة, أنه يتقمص شخصية شريد يسرق ليبقى, وأنه لا خيار له إلا باقتحام بيت الغني, في البداية كانت الفكرة هي في عرض فيديو -فيلم قصير- يحكي فيه ظروف الشخصية, مقارب في ذلك لما عرضته في الاعلان التمهيدي للعبة:
لكني وجدت أنها أضعف الحلول, فقد اضطررت هنا للجوء إلى وسيط آخر -الأفلام- لأخبر القصة وهذا يُضعف من موقفي إذا رغبت في اقناع أحدهم بقدرة اللعبة على إخبار القصص, فلا يوجد اي استغلال للتفاعلية في هذه الحالة, لذا وجدت أنه يتوجب علي أولاً أن أعترف بمشكلة "فقدان الذاكرة", على الأقل بمشكلة وجودها في البداية عند تقديم عالم اللعبة للمتلقي, لذا سأعترف أنك كلاعب فاقد للذاكرة في هذا العالم -هذا لا يعني بالضرورة أن الضخصية نفسها فاقدة للذاكرة في سياق القصة-, لكن سأفترض أنك مجرد مشاهد إلى أن تكتسب المعلومات المطلوبة لتتقمص دورك في هذا العالم, هنا سنضظر لطرح سؤال آخر, وهو ما الذي يفكر فيه فاقد الذاكرة؟!, أول سؤال يطرحه الفاقد للذاكرة على نفسه هو "أين أنا؟!" وبعدها يأتي سؤال "من أنا؟!", إذا اشكالية معرفة محيط وجوده والتكيف عليه تسبق الرغبة في إدراك الذات, اذا في بداية اللعبة يتوجب علي إجابة السؤالين بالترتيب لأصل باللاعب لمرحلة "إدراك الذات" وتقمص الشخصية, هنا يكمن دور إخبار القصة من خلال العالم نفسه وتكمن اشكالية قدرة المكان في إخبار القصة -وهذا ما سأناقشه في جزء آخر السجل-, هنا أعود إلى تدرج ماسلو للاحتياجات والذي يصف تدرج احتياجات الانسان ليصل إلى مرحلة إدراك الذات وهذا ما سأناقشه في الجزء القادم من السجل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق