الأحد، 24 يوليو 2011

[رواية مسلسلة] وهكذا سقط! #3


أولاً أعتذر عن التأخير -مضى شهر؟!-, لكن هذا حال الكتابة, في الحقيقة كنت بحاجة لهذه الإجازة, تغيرت خططي, راجعت الكثير من الأفكار التي كنت قد نويت طرحها في الرواية, وجدت أيضاً أن إيقاع الرواية أسرع مما يجب, ولأن الكتابة عاصيه بطبعها فقد قررت اتباع نظام جديد في كتابة هذه السلسلة, سأخصص ساعة كل يوم لها, حتى وان قضيتها متسمراً امام الشاشة, فقد اكتشفت أن أفضل طريقة لانتظار الأفكار هي الجلوس و... هيه انتظارها. 

يمكنك قراءة الأجزاء السابقة هنا: [رواية مسلسلة] وهكذا سقط!


-5-
كان يسود أجواء القاطرة السكون, اختلطت ضوضاء احتكاك القاطرات وتمايلها بالوجوه الجامدة العابسة التي لا تكاد تميزها عن الكراسي الجالسين عليها, إلا تلك الطفلة الصغيرة التي تنظر إلىّ الآن من خلال ثقب صنعَته في ورقة أظن انها التقطها من على الأرض, يبدو انها تتقمص دور المصور, غمزت لها في ابتسامه خفيفة, ربما هي الوحيدة التي سلمت من خبل الدنيا, لكن سيأتي دورها بالتأكيد, لتترك حجر والدتها وتجلس على احدى تلك الكراسي, لتشاركنا جميعا الحيرة وجمود الوجه, حتى وان كانوا صامتين, يمكنك سماع الصراخ في أعينهم.
رؤية كل هؤلاء الناس في قاطرة واحدة كان مثيرا لي أول مرة ركبت فيها قطاراً, كنت حينها في الابتدائية, كنت هارباً من البيت, لم يكن معي غير الشنطة المدرسية والزمزمية, كان يملأني حينها أملٌ لم أجده أبداً بعد ذاك, كنت أظن أنه بإمكاني الالتحاق بمدرسة أخرى أفضل في المدينة, حيث لا أتعرض للسخرية, حيث أتمكن أخيراً من صنع صداقات, حيث أكون كبقية الطلاب, كنت قد وعدت نفسي حينها أن أصطنع الغباء, ألا أجلس في الصف الأمامي, أن ابدأ بداية جديدة, أن أصبح شقياً, هؤلاء فقط من رأيتهم يبتسمون في مدرستنا, كنت أظن حين وضعت قدماي داخل القاطرة لأول مرة أن حياتي ستتغير, أني أخيراً أستطيع فعل ما اريد, هذا ما ظننته على الأقل.
 ركوب القطارات يستحوذ على الجزء الأكبر من حياتي, كنت أستقله كل يوم ذاهباً إلى المدينة, حيث العمل والدراسة, لم افكر أبداً في الاستقرار في المدينة, لست على صلح معها, دائما ما اشعر أني وحيد وسط ازدحام شوارعها, مروري  بهؤلاء الغرباء أليفي الوجوه لا يزيد عن مرور الهواء بجوار أذني, الفارق الوحيد هو اختلاف الصوت الصادر عنهما.
كنت أنظر إلى الفتاة الصغيرة بابتسامة على فمي, لكني أشك في انها أخفت الحزن في عينياي, أعرف مصيرها تلك الفتاة, ما الذي قد يتغير؟! لا شئ يتغير, لقد حُكم على هذا الجانب من الوادي بالموت منذ الخليقة, لا جديد, عندما تدرك أنه لا حول لك ولا قوة, لا جديد, عندما تدرك أنها وحيدة وإن تكاثرت الوجوه الناظرة إليها, لا جديد, عندما تدرك أنها اضاعت عمرها تنظر للآخرين أيضاً, لا جديد, ربما لن تكتشف تعاستها أبداً, أو بالأحرى لن تعترف بها, أو ربما بعد فوات الأوان, رؤية الأطفال الصغار دائما تثير مثل تلك الخواطر في ذهني, اتمنى أن أخبرهم, كم أتمنى أن يفهموا, لكن لا جديد, سيكبرون, وسيفقدون روحهم, وسيتطلعون لوجوه الآخرين, كنت أتمنى أن أفهم أنا الآخر.
الغريب أن العجوز لم ينطق بحرف منذ أن عاد, أين اختفى فجأة أصلاً؟! أثار اهتمامي هذا الرجل, لكني أخشى محادثته مرة أخرى, لا يبدوا ان النوم سيأتي قريباً أيضاً.
            - أين كنت يا شيخنا؟!
نظر إليّ بغضب وتهكم شديدين, لم أكن أدرك أن العواجيز يمكنهم صنع تلك التعابير على وجوههم المنهالة, نظرته صدمتني كالصفعة المباغته وتركتني فاغراً فاهي للحظات, عرّتني نظرته تلك من كل تكلف كنت أنوي أصطناعه معه, تحركت قطرتا عرق على جبيني لتكشف مدى هشاشتي وأنا أنظر إليه كالأبله, في لحظة واحدة دمر كل اعتبار وتقدير أحطت به نفسي, لا أدري لماذا يتملكني هذا الشعور بأني أعرفه, أو بالأحري بأنه يعرفني, يعرفني حقاً, تملكتني رغبة في الهرب, امتدت يدي بشكل لا إرادي إلى طرف الشباك المجاور للمقعد, وكأن يدي تومئ لي بالطريق, لكني لا أجرؤ حتى على ذلك, لا أريد أن يظن الناس أني مجنون, لست مجنوناً, هو المجنون.
-انتظر...
-لماذا؟!
-سيفوتك الكثير...
-وما أدراك؟!
تجاهل سؤالي وأسند رأسه إلى الخلف وثبّت ناظريه خارج النافذة وظل صامتاً هكذا لفترة, وأنا أتأمله في دهشة غارقاً في عرقي, فارغ الذهن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق