الاثنين، 17 مارس 2014

نحو الوو وي


أحيانا ما أضبط نفسي متلبّساً بفعلٍ ما قد يدل على خلل ذهني، مثلاً الآن تعرّضت لظاهرة غريبة، غرابتها لا تمنع احتمالية تكرارها أو كونها تكررت سابقاً: أحتفظ دائما بزجاجة مياه بجواري على المكتب، في اللحظة التي امتدت فيها يدي للزجاجة كنت أظن أنها فارغة، ما أستدل به هو وضع الاستعداد للقيام، لملئها، الذي اتخذته. لكن طبعاً ولأن الظاهرة غريبة، كانت الزجاجة ممتلئة بالفعل.

وكمواطن واعي بسذاجته الاختيارية، في مقتبل عشريناته وقارئ لهيديجر، كان استنتاجي الأول لما حدث، أن وعيي تشبّث بنجاح ولو للحظات بنسخة سابقة من العالم كانت فيه الزجاجة غير ممتلئة، "أهلا ذاتي السابقة"، "أهلا ذاتي الحالية"، "تشرّفناُ"، "تفضّل كوب الماء". "كم أود ضربك". للأسف طبعاً اللقاء لم يتم بهذا الشكل، من المؤسف أنه على الرغم من اقتناعي الكامل أن "المستقبل"، "ذاتي المستقبلية"، هو شخص آخر تماماً يمكنني التعامل معه كيفما أتعامل مع أي شخص غريب في هذا العالم الواسع --كلّكم غرباء بالنسبة لي طبعاً، وأنا بالمثل غريب لذاتي المستقبلية، وذاتي السابقة التي تنتسب لي بحكم بلطجة التاريخ، "كم أود ضربك".

لم أكن مقتنعاً أبداً بفكرة استمرارية الوعي، ماسورة نافذة متصلة عبر الزمن، فقط أتفهّم ضرورة التوهّم بانّي نفس ذات الشخص الذي سيموت لو قررت الآن ابتلاع كامل علبة الميكلوزين التي أحتفظ بها في درج المكتب. كم كان الانتخاب الطبيعي صديقاً للبيئة، الآن كلّنا يسير على قدميه -إن وجِدَت- في الجانب المخصص للمشاة -إن وُجِد- ظاناً انه نفس الشخص الذي سيكونه إذا ارتمى أمام أحد السيارات المسرعة على الطريق. هذا ما يبقيه على الجانب المخصص للمشاه، أو متفادياً للسيارات وسط الطريق إن قلّت درجة اهتمامه. ربما تطوّرنا بطريقة تجعلنا نسلّم للوهم النفسي بوجود "أنا" ثابته مستمرة ومتماسكة أمام سيل التغيّرات التي يأتي بها الزمن.

ليس لدي أي نية في الخوض في الأمر بأي استناد علمي، أو حتّى فلسفي/معرفي، أحياناً أجد ان الاعتماد الكامل على كل ما هو علمي أو جدير "بالمرجعية" قد أفسد على أمثالي من الفقراء وعديمي الطموح (و"الفيتيش" الأكاديمي) الاستمتاع بقليل من الخوض في مسائل من المفترض أنها ذهنية كهذه.

كنت وحتّى وقت قريب أتبنّى اقتناعاً (إرداف خلفي مقصود) بوحدة الوجود بمعناها الصوفي، أعني أن الأمر ممتع حقّاً، ولا حاجة له في التعاملات اليومية على أي حال، كما المنطق. لم أقرأ لشوبنهاور، لكن وصلني -بخلاف أنه كان متشائماً وهذا يكفي للجلوس والاستماع له-، تجويده لفكرة كانط، فكرته عن الزمن باعتباره جزء من العالم الظاهري، أننا دون الزمن واحد، دون الزمن لن يكون هناك ذات مستقبلية، ولن يكون هناك ذات سابقة، ولن يكون هناك غرباء. أذكر لحظة القرار بتبنّي فكرة مشابهة أنه انتابني شعور ما، نفس الشعور المصاحب لتحوُّل مجموعة من المكعبات، المسكوبة من جردل الألعاب، إلى بيت متوسّط الحجم قبيح الشكل، لا يُقارن بالأعمال الفنية التي كانت على غلاف العلبة التي أتت فيه المكعبات، لكنه كان بيتي الصغير متوسط الحجم القبيح، وهذا يكفي.

مؤخّراً تحوّل اهتمامي إلى أمور اتخذت القشرة العلمية الجذّابة، كالحقل المورفوجيني والغموض المصاحب لميكانيكا الكم والكونّكتوم، مع الاكتفاء بالأمر كلعبة فضول واستكشاف، لا حاجة للبحث عن حقيقة ما. كل ما يهمني هو التعرّف أكثر على أطوار الوعي التي أتعامل معها بشكل يومي، أنا الآن أكتب، أنا الآن أحمد الذي يضغط على أزرار الكيبورد. لكني لم ألاحظ أني أستخدم الكيبورد للكتابة إلا عندما ذكرتها الآن، كنت أفكّر، وحروف تظهر على الشاشة، كان هذا طور الوعي الأول، ثم ظهر على الشاشة أنّي كنت أفكّر في أنني أضغط على أزرار الكيبورد، هذا طور وعي ثاني يسمح لي بتأمّل طبيعة علاقتي مع الكيبورد كطرف خارجي اتصل بي في لحظة ما، يالله كم كنت عظيماً يا هيدجر، سأسامحك على نازيتك.

مشكلتي أنّه حتى ذاتي "الحالية"، بافتراض استمراريتها عبر الزمن، ليست موجودة، لا أستطيع الامساك بها، كمفرمة لحم، تحوّل ذاتي المستقبلية إلى شرائح من الذاكرة لاسترجاعها مستقبلاً كذاتي السابقة. كانت الأمور أبسط أيام المراهقة، كنت حريصاً على تجميع أكبر قدر من "التجارب"، دون أدنى اعتبار لمستقبل أو تاريخ قد يَصِم، "لم آتي لهذه الحياة للاستمتاع"، "أتيت هنا للتجربة". "كم أود ضربك".

قضيت معظم العام الفائت في تجربة ممتدة تسمح لي بالإبقاء على خطوط معينة في حياتي بأقل الخسائر: الدراسة، وما يترتب على ذلك من علاقة سطحية مع الزملاء لتمرير الوقت الضائع؛ العمل، وما يترتب على ذلك من تعريص محدود لتمرير المصالح؛ البيت، ما يترتب على ذلك من خلق بيئة مستفزّة تمنعني من "العلوقية". كنت مرناً، آه كم كنت مرناُ ورائعاً، كنت أحدد مِزاجي اليومي بيدي، اليوم حزن، غداً حزن، وبعده أيضاً حزن، كان الحزن المِزاج الاختياري الوحيد.

لم أعد مهتماً بالوعي الجمعي كامتداد، كمقارنة بين "التقاليد" وتمسّك الفرد بفكرته عن ذاته التي شكّلتها له طفولته ولم يراجعها منذ حينها، بلا جينات ولا ميمات ولا أديان ولا أيدولوجيات، الحياة لا تزال مساحة تجارب لأمثالي من الغرباء على أنفسهم. لازلت أعاني من أزمة الوعي المفرط بذاتي وكل امتداد "مُفتَعَل" لها في محيطه، لكن أعدكم أني في طريقي نحو مستقبل أكثر "صدقاً"، دون ثنائية ديكارت، نحو الوو وي. وو وي وو وي.

كانت نتائج كل المرّات التي أجريت فيها تجارباً على إكتائبي كارثية وخيانة عظمى لسيدنا قانون البقاء، مقاربة للموت عدّة مرّات وجسد جديد ممتلئ بآثار طعنات وعمليّات جراحية. وخطر اجترار آخرين في أمور لا تعنيهم بالمرّة. لكن كل شيء على ما يرام الآن. كل شيء على ما يرام.

هناك تعليق واحد:

  1. This paragraph presents clear idea for the new people of
    blogging, that truly how to do blogging and site-building.



    Look into my homepage; grow taller 4 idiots

    ردحذف