السبت، 21 أبريل 2012

فوائد مماطلة الذاكرة

عليك أولاً وقبل أن تقرأ التالي أن تضع في الاعتبار أنّي مقتنع تماماً أن "اللغة" فخ؛ إدراك البشر قاصر, لاعتمادنا على "العلامات" أو الألفاظ  -أيا كانت- التي قد نستخدمها لإقناع أنفسنا بأننا توصلنا للماهية "الحقيقية" "للموضوع قيّد الاختبار", والتي هي في الواقع مجرّد اتفاق ضمني على وصف يتوافق من ظروفنا نحن ككائنات بشرية, هذا بالإضافة لانحيازي بشكل كامل لصالح مقاربة العلوم الطبيعية والصورية في دراسة البشر, مقابل الخراء والاستمناء الذهني المتمثّل في العلوم الإنسانية/التحليلية -خصوصاً المبني منها على افتراض أن الإنسان كائن أكثر "عمقاً"-, إلا أنه ربما -ولو لمرة- أستطيع ممارسة القليل من التحليل والتنظير في نطاق ملكيتي الخاصة, -في هذه الحالة- ذاكرتي الشخصية, التفتيش في الذاكرة فعل مُرهِق جداً خصوصاً لشخص كان مصاباً باضطراب ADHD "قصور الانتباه وفرط الحركة" في طفولته, والذي لا زلت أعاني منه جزئياً في صورة خلل في "الذاكرة قصيرة المدى", لذا تبقى الكتابة -بالنسبة لي- الوسيلة الأسهل لترتيب الأفكار-- قرار تدوين هذه الأفكار هنا قد يكون محاولة مني لإيجاد دافع للاستمرار مقابل حالة الخمول التي أشعر بها الآن, كل هذا على حساب إظهار مدى هشاشتي لكم طبعاً. 
ربما لو امتلكت رفاهية تقديس الأشياء لقدّست الذاكرة-- ترافقني رغبة دائمة في أرشفة/توثيق ذاكرتي وما يرتبط بهاً من استجابات وردود فعل كمشاعر حنين ونوستالجيا وإنكار ذات... إلخ, وحتى الآن تبقى المحاولات الناجحة في إبقاء ذاكرتي في "كيان خارجي منفصل" مرتبطة بالتكنولوجيا: صور أو تسجيلات التقطها لي والدي في طفولتي, سجلات دردشة مع الأصدقاء احتفظت بها على "الهارد ديسك" القديم, أو ربما حتى كتاباتي وخربشاتي على الورق -الورقة والقلم تكنولوجيا أيضاً وإن كانت قديمة بعض الشئ-... إلخ؛ لهذا يسهل ادعاء أن كل عمليات "الإبداع/الإنتاج" البشري هدفها النهائي هو الحفاظ على الذاكرة بشكل ما, وإلا كيف اصبحت فكرة "الخلود" النتيجة والمبتغى النهائي في أكثر الأديان رواجاً الآن؟ بدونها لا فائدة "حقيقة" لأي شيء؛ يتعلق الموضوع بغريزة البقاء, في النهاية ستختفي هذه المجّرة ومعها كوكبنا وكأن شيئاً لم يكن, وعلى المدى القصير هناك الملايين من البشر يولدون ويموتون وكأنهم لم يكونوا -ومن المرجّح ان تكون منهم- وتستمر الحياة, مشكلة وجودية حقيقية, لكن هل يهم؟ ربماً, فقط لو كنت ممن يظنون أنهم وُلدوا لتأدية رسالة ما أو أن هناك هدفاً أسمى وراء وجودهم في  هذه الظروف بالذات.
دائما ما تتركني محاولات إدراك الأمور بحجمها "الطبيعي" -والتفكير في جدواها- في حالة من السكون والبلادة, وهذا ما أصبح يحدث مؤخراً بكثرة, مع تواتر "الهوس" بماهية الأشياء وماهيتي بالتحديد بين حين وآخر; ولهذا أصبحت خاملاً بصورة غير اعتيادية في الأيام القليلة الماضية, الفائدة الوحيدة هنا هو اني انتبهت للفراغ الهائل الذي أمثّله ككائن موجود في هذه الفترة الغير محسوبة بالمرة من عمر الإنسانية والتي بدورها لا تُذكر من عمر الكون (أنا: 19 سنة, الإنسان العاقل: حوالي 200 ألف سنة, الكون: 13 بليون سنة -تقريباً-), بين كل الخصائص التي قد ارغب في تقييم كائن ما بناءً عليها تظل الذاكرة -في حالة البشر- هي اللاعب الأساسي المختبئ وراء حاجب آخر من "شخصيته" ومجموعة "القيم والمبادئ" أو وجهات النظر والآراء التي قد يحملها, بينما في المقابل: "مفيش أسهل من تجارة المواشي", يمكنني بسهولة جداً المقارنة بين "جوزين فراخ" وتحديد أيهما أفضل للأكل دون أدني قلق من احتمال خطأ الحُكم, إحداهم ستبدو سمينة وقابلة للأكل عن الأخرى -في أغلب الأحيان على الأقل-, وستصبح أيضاً المشكلة المتعلقة بشراء "البطيخ" بلا أدني قيمة اذا سمح لك التاجر بفتح البطيخة للتأكد من انها "مش قرعة", وبالمثل, على امتداد الاسبوع الماضي قضيته في عملية عكسية لما يحب البعض تسميته بـ"البحث عن الذات", في رأيي التسمية ساذجة تماماً لكن لا بأس من استخدامها إلى أن أجد تسمية أفضل لـفعل "تفتيش الذاكرة".
 كنوع من النفاق المستحب لما يدعى "الإنسانية", قررت الاعتماد على الذاكرة بشكل كامل في البحث عن "تعريف" -متجاهلاً بذلك الصفات المورّثة و التي هي بالتأكيد عامل أساسي في معادلة تكوينك-, لأن التعريف يعتمد بشكل أساسي على "القياس" والمقارنة -يخطر في الذهن هنا هتلر وربما أي قومية على أساس عرقي-, هذا بالإضافة انه وكما أخبرتك مسبقاً فقد قررت التخلّي عن تحيّزي للعلوم الطبيعية هذه المرّة, -خلينا نهيص حبّة-.
على الرغم من قِصَر عمر وعيي طويل المدى "حوالى 18 عاماً"*, إلا أني أواجه صعوبة في تحديد "النقاط المهمة" في ذاكرتي التي يمتد أثرها اللحظي على سلوكي الحالي, لكن سأفترض أن ما قد لا أستطيع استدعائه من ذاكرتي الآن ليس مهماً بالمرة, وسأحاول بقدر الإمكان التخلّص من تأثير الحنين/النوستالجيا في التقييم, سأكتفي هذه المرة بالتقليب في فترة زمنية لا تتعدى الست سنوات و هي المرحلة التي تسبق انتقالي لمنظومة اجتماعية أوسع -المدرسة-, من حسن الحظ أني عشت معظم هذه الفترة في نطاق لا يتعدى حدود "شقة" صغيرة في احدى العمارات المقابلة لدوّار الساعة بمدينة العين الإماراتية, جدران بطلاء أبيض ومحيط يتسم بالبساطة الشديدة, في الحقيقة أظن أن السمة الغالبة على طفولتي كانت تقليليه "Minimal", حتّى بصرياً كنت أشعر بانجذاب أكبر تجاه رسوم "بهجت" و"حجازي", ربما هذه كانت أول سمة اكتسبتها -وإن فقدتها لبعض الوقت لاحقاً في أسوء مراحل حياتي حتى الآن-, يجوز جداً اعتبار التقليليه السمة الغالبة على "مخزوني البصري", الآن أيضاً أتذكر أن مسلسل ماروكو الصغيرة كان احد برامجي المفضلة على التلفاز وقتها بالإضافة لبرنامج "الحصن".
كانت هواياتي وقتها اعتيادية جداً من اللعب بالمكعبات والطين الصلصال ومشاهدة التلفاز وألعاب الفيديو, وكان المفضّل لي بين كل هذا هو الرسم, وقتها بدا أنه الشيء الوحيد القادر على نيل تقدير والداي, ربما اكتسبت حينها -بطريقة غير مباشرة- القدرة على التفريق بين "الاستهلاك" و"الانتاج", الاستهلاك هنا هو كل الأفعال التي أقوم بها دون اهتمام أو اشتراك الآخرين في النتيجة, وبالمثل الإنتاج هنا هو أي فعل يحوز تقدير المجتمع, لاحقاً سأتمكن من وضع حد فاصل أكثر وضوحا بعد أن أكتسب مهارات أكثر قدرة على إبهار/نيل تقدير الآخرين, أما الآن فيبدو أني فقدت القدرة على التفريق مرة أخرى, فالفكرة تبدو نسبية جداً على المستوى المجرّد, مثلاً, عملية الأكل بالنسبة لك استهلاكية بحتة, ما الفرق بينها وبين الكتابة؟ أو الرسم؟ أن تشتري أقلاماً وورق, ستستخدمهم بصورة ما, الفكرة هنا انّك حوّلت الحبر والورق إلى "منتج" ما, لكن ماذا عن الأكل؟ في هذه الحالة أيضاً تقوم بتحويل الطعام إلى منتج ما -خراء-؟ عملياً لا فرق, خصوصاً لو توقفت عن الاكتراث لرأي الآخرين -المجتمع, صاحب الرأي في تقييم أعمالك وتوصيفها في حالة تسليمك له-, لكن الحقيقة هي اني لم أتمكن حتى الآن من الاستقلال بشكل كامل, عيب البشر أنها كائنات اجتماعية.
الراجل المكركع-- من الأشياء القليلة التي أتذكرها من مصر في هذه الفترة, فقد قضيت معظم طفولتي في الإمارات مع فترات أجازة منفصلة, "الراجل المكركع" كانت طريقتي في وصف رجل عجوز جداً نجحت في التلصص عليه وهو في طريقه للاستحمام في احدى البيوت القديمة في المنطقة حينها, كانت أول مغامرة لي, كانت تسمح لي أمي بالتجوّل بحرية في أرجاء المدينة على عكس الشقة المغلقة بالامارات, ولهذا أول مرة استغللت الفرصة وانطلقت في أرجاء بيوت المنطقة شمالاً ويميناً أكشف أسرار هذه الكائنات الغريبة التي لم يُسمح لي بالاقتراب منهم حتّى وقتها, ربما تراكم الفضول لدرجة تسمح بالمخاطرة فيما بعد كانت احدى الخصائص التي بقيت مع على امتداد فترة الطفولة وما بعدها, ونتج عنها حالة الاستقصاء -السادومازوخية في بعض الأحيان- من المشي لفترات ومسافات طويلة في المدن والمناطق الغريبة, أو الانكباب على استهلاك أشياء معينة "موسيقى, سجائر, مخدرات, أفعال معينة... إلخ" بصورة تكاد تكون هيستيرية في فترات ما قبل الانقطاع عنها مرة أخرى وهكذا...
شكّلت ألعاب الفيديو جزئاً مهما ً من قدرتي على التخيّل و استنتاج الأنماط/ملئ الفراغات, كان هذا ناتجاً بصورة غير مباشرة عن رداءة طريقة عرض ألعاب تلك الفترة, مما أعطاني مساحة كبيرة للتخيل, كان عالم اللعبة كله مكوّن من مجموعة من نقاط بألوان محدودة, لكن مع ذلك "بالنسبة لطفل صغير" فنقطتان متجاورتان تكفيان لإظهار تعبير الابتسام أو البكاء على شخصية ما, كانت الألعاب بدون قصص, ومن كان منها بقصص فكانت بالإنجليزية, وبهذا أصبحت أمتلك نسخة خاصة بي من حكايات  Circus Charlie وContra Force وBomberman و Excitebike, كانت هذه ألعابي المفضلة لجيل NES, كنت أمتلك نسخة بوتلج -تقليد- من الجهاز موديل Mega Power II, كنت غير راضياً بالكامل عن الوقت المحدود المتاح للي للعب يومياً لدرجة أني أضربت عن الطعام ومخاصمة والداي أكثر من مرة... فعلى الرغم من رداءة تلك الألعاب -مع استبعاد عامل الزمن- إلا انها كانت قادرة على توليد مشاعر حقيقية من الإحباط والحماس والفرح والعداوة لم تكن ستتاح لي فرصة اختبارها لو اكتفيت بمشاهدة مسلسلات الأنمي اليابانية -على جودتها-, اللهم إحدى المشاهد في "الليث الأبيض" التي أتذكر أنها جعلتي أدمع, أيضاً كان "النمر المقنّع" البطل المفضّل لي في تلك الفترة, ربما من خلاله تعرّفت على "الدور الذكوري" النمطي في المجتمع وما يجاور ذلك من رغبة في الحصول على عضلات أكبر و"ضرب الأوغاد في المدرسة ضرباً مبرحاً"..
بدأت في تعلّم القراءة مبكراً بفضل مجلات الأطفال التي كان يشتريها لي والدي, كان يقرأ لي بعض القصص أحياناً, ومع بعض الوقت أصبحت بعض الكلمات التي يشير لها باصبعه مألوفة, وبقليل من التوصيل بين الأصوات والكلمات "ككتل, لم أفهم الحروف إلا حين بدأت الالتحاق بفصل أخي في المدرسة كمُستمِع",ومع السادسة من عمري أصبحت قادراً على قراءة القصص المصورة بقليل من التردد والانبهار, أتذكر يوم أن حاولت محاكاة صوت الكحّة كما وُصِف في احدى قصص ميكي "أحه", من سوء حظّي أن أمي كانت في الغرفة لتعطيني درساً لن أنساه ولن أفهم أسبابه إلا مستقبلاً بعد أن أتعرّض للفظة مرّة أخرى في شوارع المحروسة...
يبدو أنّي لم أتغير كثيراً "في المجمل" عن ما كنت عليه في طفولتي -أو هكذا أُحب أن أظن-, حالة من الإحباط وخيبة الأمل الدائمة يتخللها لحظات من البهجة, وأخيرا نوع من المسالمة مع السطحية وما توفّره من قدرة على الاستمتاع بالابتذال, "الحياة قصيرة ومحدّش يكره يستمتع بأي حاجة"...
------------
* لا يكتسب الإنسان " الهوموسابيين" الذاكرة وما يرتبط بها من "وعي طويل الأمد" -أو أياً كان مسمّاها العلمي- إلا بعد ثمانية عشر شهراً أو ما يزيد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق